سادسا: مشاريع هيرتسل الاستعمارية

وصلت مشاريع هيرتسل الاستعمارية إلى القارات الكبرى الثلاث: أمريكا وآسيا وأفريقيا.
يعتبر بعض الصهاينة هذا دليلا على عظمة هيرتسل الذي كان يعمل ليل نهار ليحل العقدة الكبرى وهي إيجاد أرض للدولة وبالتالي فهو يحل الأزمة الرئيسية التي جابهت اليهود في عهده وهي أزمة الهجرة بين يهود أوروبا الشرقية فمن أجل هؤلاء- مبدئيا- كان هيرتسل يسعى للأرض وقد عارض فريق من الصهاينة الأوائل مسعاه هذا معتقدا أن شرط هيرتسل اللهث وراء وعد دولي أي وعد للحصول على الأرض أية أرض ليس إلا تسرعا يؤدي بالحركة إلى الهلاك.
أ- مشروع الأرجنتين
قبل ظهور هيرتسل كان هيرش صاحب مشروع استيطاني مصغر لعدد من اليهود وفي اللقاء الأول والشهير بين الرجلين في باريس في 2 حزيران/ يونيو 1895 هاجم هيرتسل المشروع لأن نتائجه جاءت ضعيفة وقال أنه حتى لو نجح هيرش في إسكان عشرين ألفا هناك وبمستوى جيد فهو لن يبرهن شيئا يذكر أما إذا فشل المشروع فسيكون الفشل شهادة مريعة ضد اليهود ولما احتد هيرش قائلا: كفى انتقادا ماذا يجب أن يعمل ؟ رد هيرتسل بأن المشكلة ليست في هجرة اليهود أو بقائهم مكانهم فالمشكلة أنهم يجب أن يصبحوا أقوياء ومندفعين إلى العمل والنهوض وبعد ذلك فليهاجروا إن دعت الحاجة وعوضا عن شراء اليهود
فردا فردا يجب أن تنفق الأموال على المشاريع العامة والإنجازات الضخمة في الفنون والعلوم والاستكشافات .....
واختلف الرجلان. صاح هيرش لا لا لا لا لا أريد أن أرفع من المستوى العام لليهود أبدا فكل البلاء الذي ينصب علينا سببه أن اليهود يريدون التسلق عاليا جدا... أن كرة الآخرين لليهود سببه هذا.
وعاد هيرش يشرح مشروعه في الأرجنتين وهدفه تحويل اليهود إلى مزارعين وعلى الرغم من اختلاف هيرتسل معه اختلافا أساسيا فيما يتعلق بأسلوب العمل فانه أخذ عنه حلم الأرجنتين وقد ذكرنا سابقا أنه أقترح في كتابه الدولة اليهودية الأرجنتين أو فلسطين.
تراجع هيرتسل عن مشروع الأرجنتين بعد صدور كتابه بالألمانية بأشهر فقال للمترجم إلى اللغة العبرية أن يعلم القراء أنه قد توصل إلى نتيجة أن الدولة اليهودية يجب أن تقام في فلسطين وأن اللغة القومية يجب أن تكون العبرية. غير أن هذا التراجع لم يحل دون استعمال مشروع الأرجنتين بديلا من مشروع فلسطين في مباحثاته مع العثمانيين بهدف الضغط عليهم.
ب- مشروع فلسطين
امتدت الاتصالات بين هيرتسل والسلطان عبد الحميد ستة أعوام لم يقطع خلالها أي منهما شعرة معاوية مع الآخر: هيرتسل من جهته كان يعلم أن الحصول على وعد بفلسطين من السلطان الحاكم نفسه لا يعادله أي وعد آخر وكان الإغراء بالمال وسيلته الوحيدة والسلطان من ناحيته كان يريد الأخذ من دون عطاء فهو لم يكن فعلا على استعداد للتنازل عن شبر من فلسطين.
بدأ هيرتسل أول مساعيه الدبلوماسية في ألمانيا بلقاء دوق بادن الكبير في نيسان/ ابريل 1896وكان القسيس وليام هيلشر الملحق في السفارة البريطانية في فيينا والمؤمن الكبير بهيرتسل شبه نبي واسطته إلى القصور الألمانية.
بدأ دوق بادن الكبير متعاطفا لكنه لم يجرؤ على المساندة علنا أما هيرتسل وهو الذي ذهب إلى اللقاء وهدفه الأول أن يطلب لقاء مع القيصر الألماني ويلهلم الثاني فقد طلب أيضا لقاء مع قيصر روسيا إن أمكن وقد وعده الدوق الكبير بالمحاولة على الرغم من أن القيصر الروسي لا يقابل أحدا إلا وزراءه عند الضرورة. ولعل أهم ما ورد في اللقاء هو السؤال العابر من قبل الدوق بشأن السلطان وان كان هيرتسل قد عمل شيئا بخصوصه.
لم يضع هيرتسل وقته فبينما كان مستمرا في لقاءاته في أوروبا كانت عينه على استانبول أما واسطته نحو الشرق فكانت صديق الكونت نيولنسكي وهو بولوني الأصل وله علاقات واسعة بالأسر الحاكمة في أوروبا وكذلك في استانبول.
كانت زيارة هيرتسل الأولى لاستانبول في حزيران/ يونيو 1896. وقد قابل خلالها الصدر الأعظم الذي استمع إليه بكل هدوء وطرح العديد من الأسئلة إلا أن المقابلة بصورة عامة لم تكن مشجعة.
وقد علم هيرتسل عن طريق نيولنسكي أن الصدر الأعظم رفع تقريرا إلى السلطان لا يؤيد فيه المشروع بل لا يعتبره مشروعا جديا. وكان عرض هيرتسل في هذه الزيارة المال لتخليص تركيا من الدين العام. فهو يعرض عشرين مليون ليرة لتسوية الأوضاع المالية في تركيا منها مليونان لقاء فلسطين وثمانية عشر مليون ليرة لتحرير تركيا من قبضة أوروبا. لم يقابل السلطان هيرتسل خلال هذه الزيارة إلا أنه أرسل إليه رسالة شفوية عن طريق صديقه نيولنسكي في 19 حزيران/ يونيو 1896:
إذا كان السيد هيرتسل صديقك بقدر ما أنت صديقي فانصح له ألا يتخذ أي خطوة في هذا الأمر. لا أستطيع أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل أبناء شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم وقد غذوها بدمائهم وسنغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. كتيبتان من سوريا وفلسطين استشهد أفراد هما الواحد تلو الآخر في بلفنه. لم يسلم منهم أحد كلهم قدموا حياتهم في تلك المعركة. الإمبراطورية التركية ليست لي إنما للشعب التركي لا أستطيع أن أعطي أحدا أي جزء منها ليوفر اليهود ملياراتهم فإذا قسمت إمبراطوريتي فهم قد يحصلون على فلسطين من دون مقابل إنما لن تقسم إلا على جثتنا. أنا لن أقبل بتشريحنا ونحن أحياء.
وعلى الرغم من هذا الرد الحازم القاطع فالسلطان حافظ على شعرة معاوية وقال أنه سيقابل هيرتسل عاجلا أم آجلا. وربما أراد السلطان أن يمتحن هيرتسل عندما طلب منه- عن طريق نيولنسكي- أن يعمل على إقناع زعماء الأرمن في لندن بالخضوع له مباشرة وأن يضغط على الصحافة الأوروبية لمعالجة المسألة الأرمينية بروح صداقة أكبر مع الأتراك والسلطان من جهته سيقدم لهم تنازلات ثم يستقبل هيرتسل إلا أنه طلب تحديدا لأسماء الصحف ولأوضاع الأرمن لكنه لم يفعل شئ فيما بعد.
ربح هيرتسل من الزيارة الأولى وساما من السلطان، وقد شكره في رسالة جاء فيها: في اليوم الذي تنعم جلالتكم بقبول خدمات اليهود، سوف يسعدهم أن يضعوا قواهم في تصريف ملك عظيم مثلكم.
زار هيرتسل استانبول في تشرين الأول_ أكتوبر 1898، وكانت غايته لقاء القيصر الألماني ويلهلم الثاني الذي كان بدوره يقوم بزيارة لصديقه السلطان، والذي رأى هيرتسل فيه خير واسطة لإقناع السلطان.
تم اللقاء بحضور وزير الخارجية الألماني فون بيلو الذي أشار إلى عدم ولاء اليهود للأسرة الحاكمة، هو هنزلرن، والى انخراط شباب اليهود في الأحزاب المعارضة للإمبراطورية، والى معارضة أثرياء اليهود ومعارضة الصحف الكبرى، وقد علة هيرتسل، في يومياته، إن فون بيلو كان معارضا معارضة كلية، باستثناء قوله كلمة لا.
إما القيصر الذي كان هيرتسل مهيبا جدا من لقاءه، فقد أعرب عن قناعته بأن القدرات المالية والبشرية لليهود كفيلة بإنجاح استيطانهم في فلسطين، وبدا
متعاطفا حين قال في نهاية الجلسة (( وبعد، فأنا الوحيد الذي بقي إلى جانب السلطان وهو يعتمد علي )) ثم سأل هيرتسل)): قل لي بكلمة واحدة ماذا تريد مني أن أطلبه من السلطان ؟))
فأجابه (( شركة قانونية _ تحت الحماية الألمانية )).
التقى هيرتسل القيصر بعد أسبوعين، في القدس، وكله أمل بأن يسمع منه ردا ايجابيا، وألقى بين يديه خطابا مطولا شرح فيه صهيونيته العصرية المتطورة، حتى قال أخيرا:
ونحن نعتقد بصدق، إن تحقيق الخطة الصهيونية يحمل الخير إلى تركيا أيضا؛ سيحمل إليها الموارد المالية والعملية، وسيعمل على إخصاب مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة في المستقبل القريب، وينبع من هذا كله المزيد من السعادة والحضارة لأناس كثيرين.
نحن نخطط إلى قيام شركة يهودية لأراضي سوريا وفلسطين، تأخذ على عاتقها المشروع الكبير ونطلب حماية القيصر الألماني لهذا الشركة.
إن فكرتنا لا تسئ إلى حقوق أحد ولا إلى مشاعر الدينية إلى لأحد، أنها تؤمن مصالحة طال نشدانها. ونحن نفهم ونحترم تعلق جميع الأديان التي قامت على هذه الأرض، التي قام عليها أيضا دين آبائنا.
تحدث القيصر مع هيرتسل باقتضاب في عدة موضوعات جانبية. أما الجواب المنشود فكان جملة مبهمة عامة " المسألة في كل حال ما زالت بحاجة إلى دراسة شاملة والى المزيد من التفكير ".