سابعا: زعامة هيرتسل

توفي هيرتسل في 7 تموز / يوليو وجرى له في فيينا مأتم حاشد مهيب سرعان ما تحول إلى شغب بفعل النحيب والحزن المريع والصراخ الجنوني. وفي كل التجمعات اليهودية كان الحزن عميقا على هيرتسل الذي سبب اليتم الحقيقي للحركة الصهيونية.
التصقت بهيرتسل ألقاب عدة في حياته وبعد مماته منها: الملك. النبي. الزعيم. والنسر الكبير وهكذا على الرغم من أن الرجل لم يحقق- فعلا- شيئا مما وعد به شعبه فالواقع أن حليف هيرتسل لم يكن النجاح بل الشهرة الواسعة الآفاق.
قال النقاد في هيرتسل أنه كان فاشلا لا في نظرهم فحسب بل في نظره هو نفسه ولما مات كان الصهاينة أبعد ما يكونون عن فلسطين أم صفاته؟. فمما لا شك فيه أنه كان فردي النزعة في قيادته إلى حد كبير ويتطلب من أتباعه الانقياد الأعمى وفكره؟ ماذا هناك؟ لم يكن مفكرا مبتكرا ولم يذهب تحليله السياسي إلى أبعد ممن كان قبله. وبرنامجه؟ إن رغباته الجامحة في إيجاد حل ولو جزئي للمسألة اليهودية تقدم على رغبته في إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
في جانب آخر يوجد بين معاصري هيرتسل فريق معجب به ومعترف بأخطائه وبينهم وايزمن وفريق آخر لا يرى في هيرتسل إلا أخطائه ومنهم آحاد هاعام ونتوقف عند آراء من الفريقين في يهودية هيرتسل: كتب وايزمن ( أول رئيس
لدولة إسرائيل ) في مذكراته أنه كان في عامه الجامعي الثاني عندما أصدر هيرتسل كتابه الدولة اليهودية ولم يجد هو وزملاؤه شيئا جديدا في الكتاب وساءهم أنهم لم يجدوا فيه أي إشارة إلى الرواد في الصهيونية أمثال هس وبنكسر وبيرنباوم. وواضح أن هيرتسل لم يكن يعلم بوجود أحباء صهيون وهم لم يذكر فلسطين وتجاهل اللغة العبرية ومع ذلك يقول وايزمن: إن تأثير الكتاب كان كبيرا لا بسبب الآراء الواردة فيه وإنما بسبب الشخصية وراء الكتاب فهي التي جذبتنا إليها هنا الجرأة والوضوح والحيوية. ثم يعزو وايزمن سر إعجابه وإعجاب رفاقه الطلاب الروس اليهود في برلين بهيرتسل إلى كونه يهوديا غربيا جاءهم من دون أن يكون مثقلا المفاهيم السابقة التي ألفوها.
ويشير مناحيم أوسشكين زعيم العمليين المعارض لدبلوماسية هيرتسل إلى النقطة نفسها التي أثارت إعجاب وايزمن من زاوية أخرى فيقول أن جهل هيرتسل باليهودية كان مهما ليبقى متحمسا كما يعلق على اللقاء الأول بينهما في فيينا: أن نقصه الكبير سيغدو أكبر مصدر للقوة لديه فهو أولا لا يعرف شيئا عن اليهود ولذلك فهو يعتقد أن هناك صعوبات خارجية فقط في وجه الصهيونية لا داخلية لن نفتح عينه كي يبقى إيمانه قويا.
قال فيه النقاد من يهود أوروبا الشرقية انه إجمالا لم يكن هيرتسل ال القليل مما يمكن وصفه بوضوح أنه يهودي وتساءل آحاد هاعام: ماذا كان بالتحديد- يهوديا- في الدولة الجديدة؟ الاسم صهيون لم يرد ولا مرة. والسكان لا يتكلمون العبرية ولا شئ إلا القليل عن الثقافة اليهودية هذا إن ذكرت.
أما يوميات هيرتسل فما كان نشرها بحرفيته ليثير انتقادا أقل من نشر دولته فعندما طرح أول مرة موضوع نشر اليوميات عارض صديقه وحليفه الأول نورداو أشد المعارضة صائحا: سوف تحطمون اسم هيرتسل إن نشرتم يومياته فكل من يقرؤها سيعتقد أنه كان مخادعا وأحمق.
في اثر وفاة هيرتسل قال وايزمن فيه ما يمكن اعتباره موقفا عاما للعديد من اليهود: لقد ارتكب هيرتسل أخطاء فادحة إلا أنه كانت له طلة النسر وكان ذا قوة هائلة.
واختصر مارفن لوونتال أهمية هيرتسل بقوله: إن هيرتسل وضع الصهيونية على الخريطة وهو بإنشاء المنظمة الصهيونية أعطى الشعب اليهودي عنوانا.
أن هذا الرأي الأخير ينسجم مع الحقيقة والتاريخ إلا أنه يبقى تعريفا ناقصا فيجب أن يضاف إليه أن هيرتسل بإصراره على وعد دولي بفلسطين دخل البوابة التي لولاها لما كان للصهيونية وطن وهي بوابة الاستعمار أن فضل هيرتسل على الصهيونية انه كان أول يهودي لا أول زعيم يهودي فقط يقرع هذه البوابة بكلتا يديه لقد كان أبعد من رأي ومن أول لحظة حتمية الحلف الدائم بين الصهيونية والاستعمار.
قبل صعود هيرتسل وقبل مؤتمره في بازل لم يكن للصهيونية السياسية وجود فعلي وبعد وفاته ظن أن الحركة الصهيونية إلى زوال لا لأنها إنجازه الفردي
فحسب بل لأنه كان القطب الذي يتوحد الأعضاء من حوله وأما فشله في كل المفاوضات التي أجراها فأمر لم يكن مكشوفا بعد. ومع ذلك كله فالاعتراف الصهيوني الكامل بعظمة هيرتسل لم يتوفر إلا من وعد بلفور فعندما تكللت المسيرة التي ابتدأها بهذا الوعد وعندما تراكض إلى المفاوضات حتى خصومه الذين كانوا يعارضون نهجه السياسي أعلن نجاح هيرتسل وتكرس اسمه أبا الصهيونية وأبا للوطن القومي.