هذا هو الإسلامالحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه كلمات تحت عنوان « هذا هو الإسلام » ، وقد قسمت الموضوع إلى عدة عناصر ومباحث سأعرض لها إجمالاً ، فإذا جدّ السير جاز الجمع والقصر .
وسيتناول الموضوع ما يلي :
- هذا هو الإسلام في العقيدة والعبادات .
- هذا هو الإسلام في الشريعة .
- هذا هو الإسلام في نظام الحكم .
- هذا هو الإسلام في الأخلاق .
- هذا هو الإسلام في الاقتصاد والمال .
- هذا هو الإسلام في الاجتماع والألفة والافتراق .
- هذا هو الإسلام في العلاقات الدولية .
- هذا هو الإسلام في المدنية .
- هذا هو الإسلام في الخلاف والحوار .
- هذا هو الإسلام في المذاهب والأحزاب .
- هذا هو الإسلام في الوسطية والاعتدال والتحذير من الغلو .
عقيدة المسلمين :
أما العقيدة : فأساس الإسلام هو ما اجتمعت عليه الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – من إسلام الوجه والقلب لله – جل وعلا – ، وهو الملخص المختصر في تحقيق الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وفيهما التوحيد الخالص .
ومعنى شهادة « أن لا إله إلا الله » : أنه لا معبود بحق في ملكوت الله – جل وعلا – إلا الله وحده لا شريك له ، وكل ما عُبد سوى الله – عز وجل – فهو معبود بالباطل ، ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ٱلْبَـٰطِلُ ﴾ (1) .
ومعنى شهادة « أن محمدًا رسول الله » : الإقرار والإعلام قولا وعلمًا بأن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي هو آخر رسل الله – صلى الله وسلم عليهم – ، وأنه مرسل من ربه إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا ، وأنه يجب أن يُطاع فيما أمر ، وأن يُنتهى عما نهى عنه – عليه الصلاة والسلام – ، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرعه هو – عليه الصلاة والسلام – ، لا بالأهواء والبدع والمحدثات .
والإسلام عقيدة يتلخص في أركان الإيمان الستة : الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره من الله – تعالى – ، وذلك لقوله تعالى ﴿ ءامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ (2) ، وقال أيضًا – جل وعلا – ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ ﴾ (3) ، ومعنى الإيمان بالله هو الإيمان بوحدانية الله – جل وعلا – في كونه ربًّا واحدًا متصرفًا في هذا الكون ، وفي كونه إلهًا واحدًا مستحقًّا للعبادة وحده دون ما سواه ، وفي كونه – جل وعلا – له الأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، التي لا يماثله فيها أحد من خلقه ، وإن اشتركوا في إطلاق الصفة بين الخلق وبين الخالق .
والإيمان بأركان الإيمان الستة هو حقيقة العقيدة بالله – جل وعلا – ، ومن الإسلام عقيدة الإيمان بالغيب ، بكل ما أخبر الله – جل وعلا – به ، أو أخبر به رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، والإيمان بالغيب لا يعترضه عقل ، ولا إدراك متصور ، ولا قياس مِثْلِي ، ولا قياس جزئي ، وذلك لأن أمور الغيب مبناها على التسليم ، وعلمها عند الله – جل وعلا – ، فنؤمن بها كما أخبر الله – جل وعلا – دون دخول في الكيفية ، أو دخول في المماثلة ، ولهذا وصف الله عباده في أول القرآن بقوله ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ ﴾ (4) فجعلها صفة المؤمنين الخاصة ، وهي إيمانهم بالغيب الذي أخبرهم به – جل وعلا – ، إذ لا أحد يخبر عن الغيب أعلم من الله – جل جلاله – .
من أصول الإسلام في العقيدة : التسليم للكتاب والسنة ، ووحدة مصدر التلقي في الاعتقاد والشريعة ، ومصادر التلقي يجب أن تكون منصوصًا عليها ، وبهذا يدخل أساسًا في مصدر التلقي الكتاب والسنة وإجماع الأمة والاجتهاد الذي عليه دليله من الكتاب والسنة ، ويبعد بذلك مصادر التلقي الأخرى ، كالعقول المجردة من الدليل ، أو المنامات ، أو الأحلام ، أو المصالح المتوهمة المناقضة لما دل عليه الشرع .
من أصول الإسلام في العقيدة : أن يوالى أهل الإيمان موالاة خاصة تقتضي محبتهم ومودتهم ونُصْرتهم ، كما قال الله – جل وعلا – ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ (5) يعني بعضهم يحب بعضًا ، وبعضهم ينصر بعضًا ، ولهذا جعل علماء الاعتقاد مسألة موالاة المؤمنين في مسائل الاعتقاد ، لا في مسائل الفقه ، مع كونها لها صلة بمسائل الفقه .
ومن أصول الإسلام في العقيدة : الترضي عن جميع الصحابة الذين أثنى الله – جل وعلا – عليهم ، وعن أمهات المؤمنين ، والتسليم للعلماء الربانيين ، وموالاة عباد الله الصالحين ، وموالاة جميع المؤمنين ، على تفاضل في هذه الموالاة بحسب مقتضى الإيمان .
العبادات في الإسلام :
أما من جهة العبادات : فالإسلام بُني على خمس : على شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام ، وهذه العبادات الأربع : الصلاة والزكاة والصيام والحج ، هي أركان الإسلام العملية العظام ، التي من أجمع على تركها ، وعدم امتثال أمر الله – جل وعلا – فيها جميعًا ، فهو خارج من الملة .
شريعة الإسلام :
أما من جهة الشريعة : فالإسلام شريعته من الله – جل وعلا – وحْيُه في كتابه ، أو في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – : « الأنبياء أولاد عَلَّات (6) أمهاتهم شَتَّى ودينهم واحد » (7) . كما أخبر بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – ، قال – جل وعلا – ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجًا ﴾ (
، وقال لنبيه ولعباده المؤمنين ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾(9) .
وهذه الشريعة من الله – جل وعلا – أوحاها إلى نَبِيِّه – صلى الله عليه وسلم – ، ومنها ما هو منصوص عليه ، وهو المراد بالوحي ، ومنها ما دل الوحي على الاجتهاد فيه والاستنباط منه .
من صفات هذه الشريعة أنها شاملة تشمل جميع ما يحتاجه الناس في حاضرهم ، أو في مستقبلهم ، مع اختلاف الزمان والمكان ، وهذه الشمولية إما بالنص ، وإما بالاجتهاد ، ولذلك كان اجتهاد العلماء ، والأئمة من الصحابة – رضوان الله عليهم – ، والتابعين ، وأئمة الإسلام راجعًا إلى اتباع النص .
والاجتهاد يكون في حالة عدم ورود النص ، أو إذا عرض للنص ما يحتمله الفهم ، ذلك لأن النصوص شاملة ، والوقائع تضيق ، والنصوص واسعة ، والوقائع تختلف ، ولهذا تعتبر الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، فلزم أن تكون نصوصها ، وقواعدها ، وأصولها فيها من السعة والشمول ما يشمل الأزمنة والأمكنة مهما تعدد الزمان ، وهذا يظهر في أثر اجتهاد العلماء فيما اختلفوا فيه ، فإن علماء الملة اختلفوا في مسائل كثيرة ، ومن أسباب اختلافهم أنهم راعوا اختلاف الزمان والمكان ، ولهذا قال أهل العلم بالأصول والقواعد الفقهية : الأحكام ثابتة لا تتغير ، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان .
فالحكم واحد ، أما الفتوى فقد تتغير لرعاية قاعدة ، أو رعاية مصلحة شرعية راجحة أو نحو ذلك ، ولهذا أدلته المعروفة المبسوطة عند أهل الاختصاص .
والنصوص الشرعية منها ما هو قطعي الدلالة ، ومنها ما هو ضمني الدلالة يقبل الاجتهاد ، وهذه النصوص الشرعية في فهمها من جهة تطبيق الشريعة يجب أن تُفهم بروح مقاصد الشرعية ، ومقاصد الإسلام ، وروح الإسلام التي يقصد منها إصلاح الناس بما ينفعهم في دينهم وآخرتهم ، فصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ظاهر في بقاء الإسلام إلى قيام الساعة ، وظاهر في سعة النصوص وعدم ضيقها ، وهذا يظهر فيما نعاني منه اليوم في كثير من الأنحاء في ضيق النظر في بعض المستجدات الفقهية .
وسبب هذا الضيق أن من نظر في كثير من المسائل المعاصرة ينظر بنظر عالم أو فقيه مضى عليه قرون من الزمان ، ولم يعش الوقت الحاضر ، وذلك يظهر في التعريفات الفقهية وفي الشروط ، والتعريفات الفقهية والشروط الفقهية للمسائل إنما ظهرت بعد ظهور الفروع لكل إمام ، ولكل عالم ، فإذا ارتبط الناس بتعريفات أو بشروط اشترطها الأئمة في وقتٍ ما تصلح لزمانهم وبلدانهم في ذلك الوقت ، فقد لا تصلح لمكان ، أو لوقت آخر ، والنصوص واسعة .
والتعريفات والشروط يجب أن يُرجع فيها إلى سعة النص ، لا إلى تعريفات العلماء في وقت ما ، وذلك إذا كانت التعريفات والشروط اصطلاحية ، وهذا هو الأكثر ، لأننا نجد أن تعريف كثير من المسائل يختلف بين المذاهب ، فتعريف البيع عند الحنابلة يختلف عن تعريفه عند الشافعية وعند الحنفية وعند المالكية ، وذلك لأن تعريفهم لذلك اصطلاح ، وكذلك غيرها من المسائل تختلف تعريفاتهم بحسب ذلك ، وهذا يجعلنا نريد في هذا الزمن أن نخرج من التعريفات إلى سعة النص ، والنص يسع الزمان والمكان فيما يُصلح الناس ، ولهذا تفاصيل يضيق المقام عن بسطها .
من سمات هذه الشريعة أن الشارع راعى فيها مصالح الناس ، فالأحكام كلها قد راعى فيها هذا الجانب ، فأحكام المعاملات ، والعبادات ، وأحكام الأسرة ، والأمور الاجتماعية ، والتبرعات كالوقف والوصايا والهبات ونحو ذلك ، كل هذا للشارع مقصد منه ، فالشريعة لها مقاصد جعلتها تتسع ، فإذا غاب النظر إلى المقاصد في الشريعة ، فسيغيب هدف مهم للشارع في النظر إلى الأحكام الفقهية ، وسعة الإسلام في شريعته ، ومن ذلك ما قاله الشاطبي في كتابه “الموافقات” (10) : المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور في انخرامها ، إذ لا توجد في العادة مصلحة عَرِيَّة عن المفسدة جملة ، إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ، ولم يعتبر ندور المفسدة ، إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود .
وهذا وفقًا للقاعدة المقررة عند أئمة الإسلام ، وهي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وبدرء المفاسد وتقليلها ، والمصالح هذه المقصود منها المصالح في الدنيا بتيسير أمور الناس في حياتهم ، وما فيه قوتهم ، وفيما يحقق لهم الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وفي مصلحتهم في آخرتهم بغفران الله لهم ، وتحصيل الجنة لعباده .
ومن أصول هذه الشريعة التي يصح أن نقول : إنها سمة لهذا الإسلام أن الشريعة يسر ، كما قال الله – جل وعلا – في وصفها ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ ﴾ (11) ، وقال الله – جل وعلا – في وصفها ﴿ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ﴾ (12) والنبي – صلى الله عليه وسلم – قد طبق ذلك عمليا في حياته ، فما خُيِّر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا اختار أَيْسَرَهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه . (13)
وثبت عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال : « أحبُّ الأديانِ إلى الله الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ » (14) . وقال أيضًا : « إن الدين يُسْر ، ولن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه » (15) .
وقاعدة التيسير في الشريعة قاعدة مهمة ، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يروم التيسير دائما ، بل وجدنا التيسير في كل أمور العبادات ، وكل أمور المعاملات ، فكل شأن الشريعة هو التيسير ، فيجب على المجتهد والناظر في الإسلام ، والذي ينسب قولا ، أو فتوى ، أو حكمًا للإسلام أن يجعل هذا قاعدة عنده ، وهي أن الشريعة مبناها على التيسير ، فكلما كان الحكم مُيَسِّرًا على الناس – فيما لم يرد فيه النص – فهو الأولى بالقبول ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – وصف هذا الدين ، وهذه الشريعة بأن أحَبَّها إلى الله – جل وعلا – الحنيفية السمحة ، فالسماحة واليسر ورفع الحرج من أهم سمات هذه الشريعة .
نظام الحكم في الإسلام :
الإسلام ليس ذلك الدين الذي جاء ليحبس في المساجد ، بل هو دين للفرد ، ودين للجماعة ، الإسلام نظام للإنسان في نفسه وفي مجتمعه ، وهو أيضًا نظام حكم ، قال – جل وعلا – لنبيه ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ ﴾ (16) ، وقال أيضًا لنبيه – صلى الله عليه وسلم – في هؤلاء الذين يحكمون بحكم الجاهلية ﴿ أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ (17) .
الحرية الدينية :
راعى الإسلام أساسيات ما يقوم عليه مجتمع الناس في نظام حكمهم فراعى أولا الحرية ، والحرية تتنوع ، فمنها الحرية الدينية ، قال الله – جل وعلا – ﴿ لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ ﴾ (18) وقال لنبيه ﴿ فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ﴾ (19) ، وقال أيضًا لنبيه ﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (20) ، وهذه الحرية طُبِّقت بتطبيق ظاهر واضح في عهده – عليه الصلاة والسلام – ، وفي عهد الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم أجمعين – فلم يُجْبَر أحد على أن يعتنق الإسلام ، بل كان يُعرض له الإسلام ، فإن قبله وإلا تُرِك ، وهذا لأجل هذا الأصل في أنه من كان على ملة كاليهودية والنصرانية ، فإنه لا يُفتن عنها ، فقد كتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل اليمن ، فقال : « لاَ يُفْتَنُ يَهُودِىٌّ عَنْ يَهُودِيَّتِهِ » (21) . يعني لا يُلجأ حتى يترك دينه ، وسيرة الخلفاء في التسامح في هذا الجانب ظاهرة بيِّنة .
الحرية الاقتصادية والحرية الشخصية :
من أساسيات الشرع في الحريات رعاية الحرية الاقتصادية ، ورعاية الحرية الشخصية ، قال الله – جل وعلا – ﴿ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ ﴾ (22) ، فقد راعى الإسلام الحرية الشخصية للإنسان في شئون حياته ، وهذا أصل قَعَّدَه الشرع ، ولذلك راعى الشرع حرية الإنسان في بيته ، فعندما نظر أحد الناس إلى داخل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – غضب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وقال في ذلك : « لو أن امْرَأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفْتَه (23) بحصاة فَفَقَأْتَ عَيْنَه ، لم يكن عليك جناح » (24) . ذلك لأنه تدخل ونظر إلى ما لا يجوز له النظر فيه ، فالإسلام راعى الحريات ، ولا يمكن أن يكون هناك اجتماع حكم ، أو اجتماع دولة ، أو اجتماع للناس ، يجتمعون فيه لقضاء مصالحهم إلا بنوع من الحريات ، وهذا كله قد كفله الشرع لهم .
العدالة والمساواة :
أيضًا من أساسيات الشرع في حكم الناس ، العدالة والمساواة ، العدل بين الناس والمساواة ، فأصل الحكم في الناس إنما هو لأجل تحصيل مصالحهم ، الناس يجتمعون على واليهم ، أو على أميرهم ، أو على دولتهم ، أو على حاكمهم ، لأجل تحقيق مصالحهم ، وأعظم ما يرضي الناس ، وما تُحقق به المصالح العدلُ فيما بينهم ، والعدل عرَّفه العلماء بأنه إعطاء كل ذي حَقٍّ حَقَّه ، ومعلوم أن أصحاب الحقوق يتفاوتون كما فرق عمر – رضي الله عنه – بين الناس في إعطائهم بعض الحقوق . العدالة أن يوصل الحق إلى صاحبه ، دون مماطلة أو تسلط ، ودون طغيان على صاحب الحق .
والمساواة من آكد الأشياء المطلوبة ، فكما أن الناس في التكليف سواء ، ولا فرق بين أعرابي ولا أعجمي إلا بالتقوى ، والناس سواسية – في التكليف – كأسنان المُشْط ، فإنهم كذلك يُطلب أن يكونوا سواسية فيما يحتاجونه في دنياهم ، في مصالحهم ، وفيما يدفعون به الأذى ، وفي القضاء ، ونحو ذلك .
ولهذا فقد أكد الشرع على سواسية الناس في مُجْمَل حقوقهم ، وما به حياتهم ، وعلى سواسية الناس أمام القاضي ، وعلى سواسية الناس في تحصيل مصالحهم .
من أساسيات الشرع في الحكم أن تُحْفظ بيضتهم (25) ، وأن يحفظ اجتماعهم وقُوتُهم ، فهذا أول مهمات الحكم ، ومن أساسيات ذلك التي راعاها الشرع النصح بين المؤمنين ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : « إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة » . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » (26) .
فالنصح يكون للعامة ، ويكون لولاة الأمر ، وهذا أصل من أصول الشريعة ، وقد عاهد النبي – صلى الله عليه وسلم – بعض الصحابة (27) على أن يقولوا الحق ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وعاهد النبي – صلى الله عليه وسلم – طائفة من الصحابة على أن ينصحوا لكل مسلم (28) ، وذلك على اختلاف طبقات المسلمين ، وهذا داخل في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد وصف الله – جل وعلا – هذه الأمة بهذه الصفة ، قال – جل علا – ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾ (29) .
والنصح من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا هو القاعدة ، أما أشكاله وضوابطه وظروفه فتختلف باختلاف الزمان والمكان ، ولذلك فإن الأنظمة الحديثة كمجلس الشورى ، أو مجلس الأمة ، ونحو ذلك ، إنما هي وسيلة من وسائل النصح التي راعى الشرع فيها القاعدة العامة ، وتَرَك الوسيلة للناس ليطوروها كلما احتاجوا إلى ذلك ، فإذا تعقدت علاقات الناس ، ولم يُتوصل إلى النصح إلا بأسلوب ينظمه ولي الأمر ، فإنه يجب عليه أن ينظمه حتى تكون النصيحة واضحة واصلة إلى الحاكم وولي الأمر .
كذلك النقد ، أو ما يُسمى في هذا العصر بالمعارضة ، إذا كانت بالضوابط الشرعية فهي مقبولة ، ومن أهم هذه الضوابط أن لا تُحدث فتنة ، وأن لا تفرق المسلمين ، فإذا كان النقد والمعارضة فيه مصلحة الناس ، ولا يسبب فتنة قولية ، أو عملية ، ولا يؤدي بهم إلى فساد في اجتماع كلمتهم ، فإنه حينئذ يكون مأذونا به .
أما الحكم في نفسه ، فأركانه التي طُبقت هي : الحاكم ، وأهل الحل والعقد ، وأهل الشورى والرقابة ، والقضاء ، والدواوين والأجهزة التنفيذية .
وكذلك بين الشرع للحاكم ما يجب عليه ، وما يجب له ، وكيف يُختار ، وكيف تكون ولايته ، وكذلك في أهل الحل والعقد ومن يكونون ، وكيف يكون التعامل بينه وبين كل هؤلاء ، وكذلك الشورى والرقابة ، فقد كان أهل الشورى عند عمر – رضي الله عنه – معروفين ، وهذا الأمر يتطور بتطور الزمان ، فربما صار اليوم له مجالس وأعداد كثيرة يمثلون شرائح الأمة حتى في اختلافهم في علومهم ، وفي إدراكاتهم ، وفي بلدانهم ، وفي قبائلهم ، حتى تكون مسألة الشورى ، أو مجالس الشورى هي التي يُناط بها – كما يسمى – التشريع ، أو يُناط بها وضع الأنظمة والرقابة على أداء الأجهزة التي تنفذ هذه الأنظمة .
والقضاء أصل من أصول الشرع ، ولم تَرْعَ حضارة ، أو دين ، أو شريعة القضاء كما راعته هذه الشريعة ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في وصف القضاة : « القُضَاة ثلاثة ، اثنان فى النار ، وواحد فى الجنة ، رجل علم الحق فقضى به ، فهو فى الجنة ، ورجل قضى للناس على جهل ، فهو فى النار ، ورجل عرف الحق فجار فى الحكم ، فهو فى النار » (30) .
فالقاضي يجب عليه أن يبلغ حكم الله – جل وعلا – ، وقوله في ذلك ملزم ، وقد يكون القضاء على رتبة واحدة ، وقد يكون على عدة رتب ، كما هو الحال عندنا ، فعندنا القضاء في المحاكم ، ثم التمييز ، ثم مجلس القضاء الأعلى ، وفي بلدان أخرى له مراتب ثلاث ، والمهم أن تكون سلطة القضاء نزيهة ، لا سلطان لحاكم ، ولا لمحكوم عليها ، لأن القاضي يحكم بحكم الله – جل وعلا – ، فإذا تدخل أحد في السلطة القضائية ، فإنه تدخل في حكم الله – جل وعلا – فيما شرعه للفصل بين الناس ، فإذا تدخل الناس في السلطة القضائية ارتفع العدل ، وحل بعض الظلم فيما بين الناس ، وهذا مما يفكك الجماعة ، وينشر الكراهية والبغضاء بين الناس ، لأن الشرع رعى كل الوسائل التي تجلب للناس سعادة الدنيا والآخرة .
وهناك الأجهزة التنفيذية من الوزارات ، والمصالح المختلفة ، وهذه الوزارات ، والمصالح المختلفة ، والدواوين إنما هي أجهزة للتنفيذ ، لتنفيذ ما أمر الله – جل وعلا – به ، لتنفيذ ما جعله ولي الأمر لهؤلاء من الأمانة ، لتنفيذ الأنظمة والتشريعات . ويجب على هؤلاء أن يؤدوا الأمانة كما أمرهم الله – جل وعلا – ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ (31) .
الأخلاق في الإسلام :
أما الأخلاق فإن أعظمها ما وصف الله – جل وعلا – نبيه – صلى الله عليه وسلم – به ، حيث قال لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (32) ، وقد قال نبينا – صلى الله عليه وسلم – : « إنما بُعِثْت لأتمم مكارم الأخلاق » (33) . وهذا الحصر في قوله « إنما بُعثت » يفيد أن القصد من البعثة إنما هو تتميم مكارم الأخلاق ، وهو بهذا يجعل الأخلاق شاملة لكل ما اشتملت عليه الشريعة ، وما اشتمل عليه دين الإسلام ، وهذا هو الظاهر .
والإنسان فيه خَلق وخُلق ، أما الخَلق فهو الصورة الظاهرة ، وأما الخُلق فهو الصورة الباطنة لروحه ، وكما أن الإنسان يجب عليه أن يعمل على تحسين ظاهره ، فإنه كذلك يجب عليه أن يعمل على تحسين باطنة ، وهذا الأمر يدخله التكليف ، لأنه متعلق بالروح والنفس والغرائز ، لهذا نقول : إن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام متنوعة ، فأولها خُلق الإنسان مع ربه ، فالإنسان المسلم خُلقه مع ربه يجب أن يكون أسمى الأخلاق في جميع ما يتصل بروحه ، وهل محبة الله – جل وعلا – ورجاؤه ، والخوف منه ، والأنس به ، ودعاؤه ، والذل له ، والتوكل عليه ، وحسن الظن به ، إلا من الأخلاق الواجبة بين الإنسان وبين ربه – جل وعلا – .
خُلق الإنسان مع ربه يدخل فيه إخلاصه لربه – جل وعلا – فلا يُشرك مع الله أحدا ، ولا يقصد بعمله سوى وجه الله – جل وعلا – ،
كما قال ابن القيم – رحمه الله – :
فلواحدٍ كُنْ واحدًا في واحدٍ أعْني طريقَ الحق والإيمان
وخُلق المسلم مع والديه وأهله وأولاده ، مع جميع المسلمين بأن يُعاملهم بالصدق والأمانة ، وأن يحب لهم ما يُحب لنفسه ، وأن يرعى فيهم الأمانة ، وأن يجنب نفسه وإياهم كل ما فيه نزغ للشيطان في الصدور ، ولهذا قال – جل وعلا – في جماع ذلك ﴿ وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ (34) .
ولم تَعْلُ الأخلاق إلا بالفعل الحسن ، والقول الجميل ، ولم تتصدع الأخلاق إلا بالقول المشين ، أو الفعل المعيب ، فلهذا كلما حسُنت الأقوال والأفعال في تعاملات الإنسان ، وأحب للناس ما يحب لنفسه من الخير ، صار على خلق محمود ، وجميع الصفات ، مثل الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وأداء الحقوق هذه جميعها من أنواع الأخلاق المحمودة .
كذلك خُلق المسلم مع غير المسلمين ، فكون الرجل ليس مسلما لا يعني أن نسيء معاملته ، ونكون معه على خُلق غير حسن ، فقد قال الله – جل وعلا – ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ (35) ، وقال أيضا ﴿ لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾ (36) ، فلم يَنْهَ الله – جل وعلا – في هذا الخُلق الحميد عن بِرِّ مَن لا يقاتلنا في الدين ، وعن الإحسان إليه ، وعن العدل معه ، فالعدل أساس في كل أنواع التعاملات مع غير المسلمين ، وكذلك بِرّهم ، والإحسان إليهم ، وهذا كله مع من لم يظهر العداوة للإسلام وأهله .
كذلك خُلق المسلم في الحرب ، الإسلام أول تشريع جاء في الحرب بعزل المدنية والمدنيين عن الحرب ، واختص في الحرب بمواجهة المحاربين دون مواجهة المدنيين ، فقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن قتل الشيخ ، والمرأة ، والوليد ، ونهى عن قطع الشجر ، وهدم البيوت ، وذلك لأن المدنيين لم يحاربوا ، وإنما الحرب تكون على المحاربين ، وهذا عُلُوٌّ في الانتقائية حتى في حال الحرب ، فالحرب ليس معناها في الإسلام أن تحصد الأخضر واليابس ، أو أن تحصد الناس لأجل الانتصار ، وإنما راعى الإسلام في الحرب انتقاء من يُهاجَم ومن يُقتل .
الخُلق في تعريف وجيز فيما راعاه الإسلام : هو حمل الغرائز في صفاتها على موافقة أمر الخالق – جل وعلا – .
الاقتصاد في الإسلام :
الإسلام أعطى المال والاقتصاد أهمية كبيرة جدًّا ، وذلك لأن الاقتصاد والمال قوة للأمة ، واقتصادها يقويها ، ويقوي تكاتفها ، ويقوي أيضًا أمرها مع أعدائها ، فقوة الدولة في الإسلام ، وقوة المسلمين في داخلهم تنبع من عدة أشياء ، ومنها قوتهم الاقتصادية والمالية ، وذلك لأن مظهر القوة في أمة الإسلام لا يكون إلا بالاهتمام بالاقتصاد والمال ، وأن يُراعى هذا الجانب كثيرًا ، ولكن الشرع في رؤيته للمال مع كل هذا جعل هناك عدة أصول :
الأصل الأول : أن المال مال الله – جل وعلا – ، قال الله – تبارك وتعالى – ﴿ وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى ءاتَـٰكُمْ ﴾ (37) والبشر مستخلفون في هذا المال ، يسيرون فيه على وَفْق مراد الله – جل وعلا – ، قال سبحانه ﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾(38) ، فجعل الإنفاق مما استخلفنا فيه ، فالمال بأنواعه مما استخلفنا الله – جل وعلا – فيه ، ولذلك قال العلماء : التبذير هو أن يُنْفَق المال في غير ما أمر الله – جل وعلا – به ، فالإنفاق في الحرام تبذير ، والإنفاق على وفق الشرع هو الإنفاق المحمود .
الأصل الثاني : من أصول النظر إلى الاقتصاد والمال هو ضمان حد الكفاية لأفراد الأمة ، فالشرع راعى أن يوفر حد الكفاية لأفراد الأمة بحسب حاجتهم ، وذلك قد يكون عن طريق الدولة من خزانتها ، كما فرض النبي – صلى الله عليه وسلم – من بيت المال أشياء للمحتاجين ، وكما فرض أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – إلى آخره ، وقد يكون من التشريعات الإسلامية كالزكاة ، والصدقة ، والواجب في الإنفاق على الأقربين ، ونحو ذلك .
من أصول نظرة الإسلام للاقتصاد والمال احترام الملكية الخاصة ، فالملكية الخاصة محترمة ، والشرع يعمل دائما على تنمية الملكيات الخاصة ، الصغيرة قبل الكبيرة ، فالإسلام يهتم بالصغار قبل الكبار ، وهذا بخلاف النظرة الرأس مالية ، أو النظرات الأخرى التي تُحَرِّم الغِنَى ، أو التي تجعل الغَنِيَّ هو السلطان ، بل رغب الشرع في عمل الصغير حتى يكون منتجا ليكون المال في يده ، قال الله – جل وعلا – ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلاْغْنِيَاء مِنكُمْ ﴾ (39) .
من أصول ذلك أيضًا إعطاء الحرية الاقتصادية ، فلا اقتصاد ، ولا قوة إلا بنوع من الحرية ، ولهذا فتح الشرع باب الاقتصاد ، وجعل المحرم من المعاملات الجاهلية محدودا ، فأهل الجاهلية كانوا يتعاملون بمعاملات كثيرة متنوعة ، فحرم الشرع منها أشياء ، وجعل الباقي على أصل الجواز .
أيضًا من أصول ذلك الحث على أنواع التنمية الاقتصادية ، والعقارية والزراعية ، والصناعية ، والتجارية ، ولكل هذا أدلته من فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وفعل الخلفاء – رضي الله عنهم أجمعين – .
من أصول الشرع في نظرته للاقتصاد والمال ترشيد الإنفاق ، والنهي عن التبذير والإسراف .
من أصول ذلك أيضا تحريم كل معاملة تئول إلى الظلم الفردي أو الجماعي ، لأنه قد يتسلط صاحب المال ، فيسعى من جهته في حريته الاقتصادية إلى أن يظلم الفرد ، أو يظلم المجموع ، قد لا يحس الفرد بظلمه ، ولكن قد يظلم المجموع ، والشرع حرم الظلم في الاقتصاد بأنواعه ، وجعل التشريعات المتنوعة كفيلة بصد الظلم بأنواعه ، وأن يكون العدل هو المطلوب ، العدل في الرؤية للفرد ، والعدل في الرؤية للجماعة .
كذلك راعى الشرع نمو رأس المال ، وأن يكون ذلك متاحًا للصغير والكبير .
من القواعد العامة في نظرة الشرع للاقتصاد والمال ، أن الأصل في المعاملات المالية والاقتصادية الحل والإباحة إلا ما ثبت تحريمه في الشرع ، وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم ، أن العبادات الأصل فيها الحظر – يعني المنع – حتى يأتي دليل بالأمر بها ، لأن العبادات لا يدخلها العقل ، ولا الرأي فيُنظر فيها إلى أمر الشارع ، وأما المعاملات فهي حياة الناس ، وهي دنياهم ، فلهم ما يجعلون من التفريعات في المعاملات ، ومن أنواع المعاملات ، والأوضاع الاقتصادية ، والمالية ما يشاءون ، ولكن بشرط أن لا يكون فيها خمسة أنواع من المحاذير : الأول : الربا ، الثاني : الميسر والقمار ، والثالث : الجهالة التي تؤدي إلى الخصومات والنزاعات ، الرابع : الغش والخداع ، والخامس : الظلم .
فإذا انتفت هذه الخمسة في أي نوع من المعاملة ، أو أي نوع من الوضع الاقتصادي ، أو أي نوع مما يريد الناس أن يحدثوه في أوضاعهم المالية ، والاقتصادية ، أو مؤسساتهم المالية ، والاقتصادية ، فلا بأس بذلك ، وهو عمل مشروع .
من القواعد في ذلك أن الاقتصاد يجب أن يحقق مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، ومصالح الدولة ، فلا يحقق مصلحة أفراد مخصوصين ، أو مصلحة طائفة معينة ، أو مصلحة حزب بعينه فقط ، قال الله – جلا وعلا – ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلاْغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ (40) ، ولهذا لما قال الناس : يا رسول الله غلا السعر فَسَعِّر لنا . قال : « إن الله هو الْمُسَعِّر ، القابض ، الباسط ، الرازق ، وإنى لأرجو أن ألقى الله ، وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ، ولا مال » (41) .
وذلك في فتح المجال ، حتى يستفيد الصغير ، والكبير ، وأن لا يتحكم أناس في الأسعار لصالحهم ، مما يؤدي إلى الضرر العام .
الاجتماع وعدم الافتراق :
يحرص الإسلام على الاجتماع وعدم الافتراق ، وهذا من قواعد الإسلام ، قال الله – جل وعلا – ﴿ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ (42) ، وقال ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (43) ، وقال ﴿ شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾(44) .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الحسن : « الجماعة رحمة ، والفُرْقة عذاب » (45) . وبهذا يتضح لنا أن الإسلام أساسه الاجتماع ، وعدم الافتراق ، وينقسم هذا إلى نوعين :
الأول : هو الاجتماع وعدم التفرق في الدين ، بألا يُشَرِّع الناس في الدين ما يريدونه من عبادات ، ومن أقوال ، ومن أوضاع ، ومن طقوس ، فالأساس أن يجتمعوا على الدين الحق في عقيدتهم ، وفي عباداتهم ، وألا يفتأتوا على الشارع ، وأن لا يتجاوزوا حدهم ، وأن يتركوا التشريع لله وحده ، قال الله – جل وعلا – في سورة الشورى ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ٱلدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ (46) .
الثاني : هو الأمر بالاجتماع ، والنهي عن الافتراق في أمور الدنيا ، والدولة والإمام ، فالله – جل وعلا – أمر بالاجتماع على الوالي المسلم ، وأن يُنصر ، وأن يُنصح ، وألا يُخذل في أي موطن من المواطن ، أمر الإسلام بحفظ ذلك ، ونهى عن التفرق عنه ، وأمر بالجماعة مع الإمام الحق ، وأن يؤيد ويُنصر ، لأن في ذلك نصرة للدين ، وقوة له ، حتى لو كان عنده بعض القصور ، أو الأخطاء ، أو الآراء التي قد لا يوافقه عليها الآخرون ، ولكن لا بد للناس من اجتهاد ، وإذا صار الاجتهاد هنا وجب على الجميع أن يقفوا مع ولي الأمر فيما فيه مجال للاجتهاد ، حتى لا تحدث الفرقة ، وأقوى ما تجتمع به الأمة عدم فراقها على دولتها ، وأقوى ما تتفرق وتضعف به أن تكون أحزابًا وشِيَعًا ، قال الله – جل وعلا – ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ (47) ، فأثنى على أهل الاجتماع ، لأنهم أهل الرحمة .
العلاقات الدولية :
الحال دائمًا بين الدول إما حال سلم ، وإما حال حرب ، فإذا كانت حال الحرب قائمة ، فالشرع لا يتشوف للحرب ، بل الحرب تقوم مقام الضرورة في ذلك ، وإذا كان المجال مفتوحًا للدعوة إلى الله – جل وعلا – وإلى تبليغ رسالة الله – جل وعلا – فإن أصل الجهاد في سبيل الله – جل وعلا – لم يُشرع – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أول كتابه في رده على النصارى – : إن الجهاد لم يُشرع إلا حماية للدعوة ، فإذا كانت الدعوة يمكن تبليغها ، فإن جهاد الطلب لا وجه له . وأعطى أدلة على ذلك وشواهد معروفة .
وفي حال الحرب يجب أن يكون هناك دفاع ، وهذا واجب على الإمام ، وواجب على الأمة أن تدفع عنها الأعداء بحسب ما تستطيع ، فإذا كانت لا تستطيع ، فإنها ترتكب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما ، لأن الظلم وقع بالصحابة ، ولم يؤذن لهم بالجهاد في وقتها ، قال الله – جل وعلا – ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ (48) فجهاد الدفع مطلوب بحسب القدرة ، وبحسب الحال ، وبإذن وأمر ولي الأمر .
أما حال السلم فالعلاقات بين الدولة الإسلامية ، وبين غيرها تكون إما حال عهد وميثاق ، وإما حال أمان ، وهذه ما يُعبر عنها العلماء بحال المعاهدين ، أو حال المستأمنين ، أما حال العهد ، فالشرع رعى المواثيق والعهود ، قال الله – جل وعلا – ﴿ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ (49) ، وقال ﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا﴾ (50) ، وقال – جل وعلا – لنبيه – عليه الصلاة والسلام – ﴿ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ ﴾ ، يعني المؤمنين ، يعني لو أن طائفة من المؤمنين استنصروكم ﴿ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ ﴾ (51) ، فإذا كان هناك ميثاق بين الدولة الإسلامية ، وبين دولة غير مسلمة ، ووقع اعتداء على بعض المسلمين ، فهنا يكون لولي الأمر الخيار بين أن ينبذ العهد ، وأن يقاتل العدو ، وبين أن يرعى الميثاق ، وذلك على وفق المصالح لحفظ بيضة الأمة ، بحسب ما تراه الدولة .
العهود كثيرة متنوعة ، فالعلاقات الدولية مقررة فيما فيه مصلحة للمسلمين ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – استقبل الرسل ، وأدناهم ، وأجلسهم في مجلسه ، وأخذ الرسائل منهم ، وبعث الرسائل لرؤساء الدول والأقاليم والأمصار التي كانت في زمنه .
المدنية والحضارة :
المدنية والحضارة قامت بمفهومها الشامل والواسع في العهد الإسلامي ، ذلك أن المسلمين رأوا في الشريعة ما يحثهم على عمارة الأرض ، وعلى أن يخدموا مدنيتهم بما فيه راحتهم وسعادتهم . والبناء المدني في الداخل سواءً من جهة بنائهم للمدن ، أو من جهة التشريعات ، أو من جهة الأنظمة ، وهذا لن يكون إلا بالتعاون بين النظام التشريعي ، وبين الناس ، وبين الجهات التنفيذية ، ولذلك أقام الشرع الاهتمام الكبير بالنظام المدني بأنواعه ، فأقام الولاية ، ووضع الدواوين ، والأجهزة التنفيذية ، والقضاء ، وحث الناس على التعاون فيما فيه مصلحتهم وخدمتهم .
وبناء الأحوال المدنية ببناء الاقتصاد ظاهر ، بل شَرْعُ الإسلام في بيت المال أن يُنظم ، وأن يكون هناك أناس مخصصون للحفاظ على هذا المال ، وأن يُتصرف فيه على وفق الشرع ، كما حث الإسلام على الوقف ، وعلى أنواع التبرعات ، فالوقف سمة من سمات التنوع المدني ، وتوسيع الاهتمامات المدنية ، ولهذا نرى في زمن الحضارة والمدنية الإسلامية أنه ليس هناك مجال إلا غُطي بالوقف ، سواءً في مجال المساجد ، أو التعليم ، أو الصحة ، أو المكتبات ، أو الطرق ، أو المياه ، كما أن هناك أيضا أوقافا على الأرامل والمساكين ، وعلى المحتاجين ، وعلى من لا وسيلة له للكسب .
وهذا كله نوع من أنواع اهتمام الإسلام بحث الناس على أن يسهموا في هذا الجانب ، وألا يَكِلُوه إلى خزانة الدولة ، بل تشريعات الإسلام تحث على التكامل في البناء المدني ، في تشريع الزكاة ، والصدقات ، والتكافل الاجتماعي وما إلى ذلك .
الخلاف والحوار :
لا بد للناس أن يختلفوا ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد أن يتحاوروا ، ولهذا دعا الله – جل وعلا – المؤمنين أن يكون القول بينهم فيما يتحاورون فيه بالأحسن ، قال الله – جل وعلا – ﴿ وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ (52) ، وأكثر ما يكون القول السيئ عند المناقشة ، وعند الحوار ، فإذا اختلف الناس ، ولم يأخذوا بأحسن ما يجدون من الأقوال ، فإنهم سيختلفون ، ولذلك علَّمنا الشرع عند الخلاف أنه لا بد من الأدب ، بأن يكون قولنا بالتي هي أحسن ، أن يكون قولنا بالحكمة ، قال – سبحانه وتعالى – ﴿ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ (53) ، وهذا مع جميع أصناف الناس من المسلمين ، وغير المسلمين يُجادَلون بالتي هي أحسن ، والْحَظ أن الله – تعالى – قال ﴿ بِٱلَّتِي هِىَ أَحْسَنُ ﴾ ولم يقل : بالحسنى . لأنه عليك أن تبذل من القول أحسن ما تجد ، لأن المقصود هو الوصول إلى النتيجة ، فالناس سيختلفون ، وإذا لم نَرْعَ هذا الاختلاف فيما بيننا بالحوار بالتي هي أحسن ، فسينشق المجتمع ، وتتعدد فيه الطوائف وتنتشر فيه البغضاء ، وهذا خلاف ما أوجب الشرع من حماية البيضة ، واجتماع الكلمة .
وقال أيضًا في حوار ومجادلة غير المسلمين ﴿ وَلاَ تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ (54) ، فالمجتمع بطبيعته بتنقصه وبنمائه وبكبره ، لا بد أن يكون فيه بعض الاتجاهات المذهبية ، أو الطائفية ، وهذه بذرت من أول يوم ، والانتماءات المختلفة موجودة ، سواءً كانت انتماءات عرقية ، أو قبلية ، أو بلدانية ، أو مذهبية ، أو نحو ذلك ، وفي عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – انقسم الناس إلى مهاجرين وأنصار ، وكان هذان الاسمان – أعني المهاجرين والأنصار – اسمين شرعيين ذكرهما الله في كتابه ، ومع ذلك لما تعصب الناس من الأنصار للأنصار ، ومن المهاجرين للمهاجرين أنكر عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وذلك أنهم لما كانوا في إحدى الغزوات منصرفين منها اقْتَتَلَ غُلاَمَانِ ، غُلاَمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَغُلاَمٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلأَنْصَارِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ : « أَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ » (55) . مع أن اسم المهاجرين اسم شرعي ، واسم الأنصار اسم شرعي ، فلما كانت الموالاة والمعاداة على اسم غير اسم الإسلام ، وكان هذا من العوامل التي قد تؤدي إلى تفرق الأمة نهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – .
فالاختلاف المذهبي ، والاختلاف الحزبي ، واختلاف الواقع ، لا بد أن يوجد ، لا سيما مع هذا التمدد ، ومع تنوع الناس في معارفهم ، لا بد أن يكون هناك انتماءات ، وأن يكون هناك أنواع من التعصبات ، وأنواع الآراء المختلفة ، ولكن يجب أن يُراعى الشرع فيها ، وأن لا يكون الولاء لاسم غير اسم الإسلام ، وأن لا يكون الاجتماع على غير كلمة الله – جل وعلا – ، وتحت راية ولي الأمر .
وأما إذا تفرق المجتمع في وجود المذاهب والأحزاب والطوائف إلى أن يطعن بعضهم في بعض ، ويفتأت على ما يراه ولي الأمر ، فإن هذا يضعف الأمة ، ويُفَتِّت قوة كلمتها ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان في وقته بعض المنافقين ، وكان يراعي الظاهر منهم ولم يحاسبهم على بواطنهم ، بل ترك ذلك إلى الله – جل وعلا – ، ولذلك لما قال عبد الله بن أُبَيٍّ – وهو رأس المنافقين – : أو قد فعلوا ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : « دعه ، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه » (56) .
الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال :
الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال ، وهو الدين الذي يحارب الغلو ، وينهى عنه ، قال الله – جل وعلا – ﴿ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (57) ، وهذه الوسطية ظاهرة جَلِيَّة في جميع عقائد الإسلام وتشريعاته ، فعقيدة الإسلام وَسَطٌ ، وتشريعاته وسط ، وهذا الذي يجب أن نمارسه فيما بيننا في أقوالنا وآرائنا ، حتى في تفكيرنا يجب أن نكون وسطًا بين المغالين ، وبين الجافين وحتى في رؤيتنا لبعضنا البعض ، يجب أن نسعى للمنهج الوسط ، والمنهج الوسط هو الذي يجب أن نَحُضَّ عليه ، وندعو الناس إليه ، لأنه هو أساس الإسلام .
والغلو منهي عنه أعظم نهي ، قال الله – جل وعلا – لأهل الكتاب ﴿ يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾ (58) ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الغلو ، فقال : « إياكم والغُلُوَّ في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغُلُوِّ في الدين » (59) .
والغلو هو مجاوزة الحد ، كل ما تجاوز به حده فقد غلا فيه ، والغلو في الدين مذموم ، وأصحابه خارجون عن سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وما ظهرت الفرق ، والطوائف الضالة ، والمحدثات إلا بظهور الغلو ، فالخوارج ما ظهروا إلا بالغلو في دين الله – جل وعلا – ، وهل نَكَبَ الأمة في تاريخها إلا الغلو والازدياد في التدين بما لا دليل عليه .
وربما نحا أصحاب الغلو إلى أدلة ، ولكن الغلو والانحراف موجود في النفوس قبل أن يبحث أصحابه في الأدلة ، وهذا ما نص الله عليه في كتابه حيث قال ﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِ ﴾ ، هناك متشابهات يشتبه علمها ، يمكن أن تستدل بها على كذا ، ويمكن أن تستدل بها على كذا ، قال الله – جل وعلا – ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ﴾ ، الذي في قلبه زيغ أصلا في قلبه غلو ، في قلبه انحراف ، فيتبعون ما تشابه منه ، فصار اتباع المتشابه من القرآن ، أو من السنة ، لا لأنه يوقع في الحيرة ، ولكن لما وُجِدَ الزَّيْغُ في قلبه ذهب إلى غير دليل يستدل به ، ليقنع نفسه بأنه على صواب ﴿ وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا ﴾ (60) .
أسأل الله – جل وعلا – أن يغفر لي زللي وخطئي وقصوري ، وأن يجعلني فيما ذكرت متحريًّا الصواب ، وكلمة الحق في وصف الإسلام ، وفي شرحه وبيانه ، وأستغفر الله مما قصرت به عبارتي ، أو نحا به فهمي على غير الصواب ، أسأل الله – جل جلاله – أن يجعلنا من الهداة المهتدين ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يُعِزَّ هذه الأمة ، وأن يُقَوِّيَها على أعدائها ، وأن ينصرها نصرًا مؤزرًا إنه – سبحانه – جواد كريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
رابط الموضوع :
http://www.assakina.com/book/5809.html#ixzz3J4jXqEOk