ما قصة حائط البراق وحائط المبكى وهيكل سليمان؟قبل نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، نشر الدكتور المتوكل طه، وكيل وزارة الإعلام في السلطة الفلسطينية، دراسة حاول فيها إثبات أن حائط البراق - الذي يسميه اليهود حائط المبكى - هو جزء أصيل من المسجد الأقصى ولم يكن في أي وقت من الأوقات جزءا من الهيكل اليهودي. وعلق بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، على دراسة المتوكل بقوله: عندما تنفي السلطة الفلسطينية العلاقة بين الشعب اليهودي والحائط الغربي، فإنها تطرح علامة استفهام خطيرة للغاية حول نواياها في التوصل إلى اتفاقية سلام تستند إلى التعايش والاعتراف المتبادل. وسارعت السلطة الفلسطينية بإزالة الدراسة من موقع وزارة الإعلام، خاصة بعد الانتقادات التي صدرت عن الولايات المتحدة.
ما قاله المتوكل في بحثه هو الكلام نفسه الذي سبق أن قاله الرئيس الراحل ياسر عرفات أثناء مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، لكل من الرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، الذي تسبب في فشل المفاوضات. يقول السفير عبد الرءوف الريدي، مندوب مصر السابق في هيئة الأمم المتحدة: «كان الخلاف حول القدس، وبصورة أكثر تحديدا حول الحرم القدسي الشريف، هو السبب الرئيسي في فشل مباحثات كامب ديفيد.. فكان الاقتراح الأميركي يقضي بالتسليم بالسيادة الفلسطينية على المسجد الأقصى (الحرم)، مع إعطاء السيادة لإسرائيل تحت المسجد (الحرم). وبطبيعة الحال رفض الجانب الفلسطيني هذا الاقتراح». (الأهرام 22/10/2000).
النتائج التي توصل إليها المتوكل ليست صحيحة على الإطلاق؛ فهي لا تتعارض مع حقائق التاريخ فحسب، بل تتعارض كذلك مع العقائد الدينية السائدة. يقول المتوكل: إن اليهود لم يكن لهم معبد في مدينة القدس في أي من الأيام، وعلى هذا فإن الحائط الغربي للحرم الشريف لم يكن جزءا من معبد اليهود وإنما هو تابع منذ البداية للمسجد الأقصى الذي بناه المسلمون. وهذا الكلام يتعارض مع ما جاء في الكتاب المقدس؛ حيث يتحدث اليهود عن قيام معبدهم في أورشليم (القدس) منذ القرن الرابع قبل الميلاد وإلى أن حطمه الرومان سنة 70 للميلاد، كما تقول الأناجيل المسيحية إن يسوع كان يدخل معبد القدس ليعلم التلاميذ، مما أغضب كهنة اليهود. أما الاعتقادات الإسلامية فهي تقول إن النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي متوجها إلى المسجد الأقصى وكان بعدُ موجودا في مكة قبل الهجرة، كما أن قصة الإسراء والمعراج تمت هي الأخرى بينما كان الرسول لا يزال في مكة، مما يعني أنه في تلك الفترة – ليس فقط قبل الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام وبناء المسجد الأقصى – بل حتى قبل هجرة الرسول إلى المدينة وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية نفسها، كان هناك معبد في القدس وكان هناك حائط قائم لهذا المعبد، هو حائط البراق.
وهناك رواية تقول إن عمر بن الخطاب عند زيارته للقدس سنة 635م، رفض الصلاة في مواجهة الصخرة، وردت في كتابات عدة مؤرخين إسلاميين من بينهم الطبري. تقول الرواية: إن كعب الأحبار - اليهودي اليمني الذي تحول إلى الإسلام - صاحب عمر بن الخطاب عند زيارته للقدس. ولما حان وقت الصلاة بعد أن تمت إزاحة الأنقاض من فوق الصخرة، نصح كعب الأحبار الخليفة عمر أن يقف شمالي الصخرة عند أدائه للصلاة، بحيث تكون الصخرة أمامه عندما يتجه إلى القبلة في مكة. إلا أن عمر رفض هذه النصيحة، ووقف إلى الجنوب من الصخرة عند صلاته مديرا ظهره لها. ويؤكد المؤرخ الإسلامي مجير الدين العليمي، في كتابه عن القدس والخليل، الذي يعتبر من أهم المصادر للتعرف على القدس الإسلامية، أن موقع الصخرة كان هو الموضع ذاته الذي بنى فيه داود مسجد (هيكل) بني إسرائيل.
أما المسجد الأقصى الحالي فلم يبن إلا في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي اختار له موقعا إلى الجنوب من قبة الصخرة ملاصقا للحائط الجنوبي لساحة الحرم. لكن بناء المسجد لم يكتمل إلا في عهد ابنه الوليد (705 - 715). وبينما أصبح المسجد الأقصى من أهم أماكن العبادة المقدسة عند المسلمين؛ حيث يعتبر ثالث الحرمين الشريفين، فهو لا يعتبر مقدسا عند اليهود. ومن المؤكد أن أرض المسجد الأقصى لم تستخدم من قبل كمكان للعبادة عند اليهود، ولا توجد أسفلها أي ممرات أو بنايات قديمة للهيكل، فقد كان موقع الهيكل الذي حطمه الرومان سنة 70 ميلادية عند الصخرة. ويرجع سوء الفهم إلى أن أجهزة الإعلام تطلق اسم «المسجد الأقصى»، أحيانا على منطقة الحرم الشريف بأكملها وأحيانا أخرى على مبنى قبة الصخرة، بينما المسجد الأقصى بناء مستقل يقع في أقصى جنوب الحرم الشريف.
كما لم يكن اعتماد المتوكل على مصادر الانتداب البريطاني لإثبات دعواه موفقا. فبعد الثورة الشعبية التي اجتاحت أرض فلسطين سنة 1929 بسبب الخلاف على طبيعة الحائط الغربي، شكلت بريطانيا لجنة للتحقيق أكدت في تقريرها ملكية الوقف الإسلامي للحائط والحرم وحارة المغاربة، وكان الملك الأفضل بن صلاح الدين قد جعل منطقة الحرم وقفا خيريا بعد استعادة القدس من الصليبيين عام 1193. ومع هذا فقد أكدت اللجة في الوقت ذاته: «تكون لليهود حرية الوصول إلى الحائط الغربي لغرض التعبد في الأوقات كلها». لماذا يحق لليهود التعبد عند الحائط الغربي إذا لم يكن مقدسا عندهم؛ حيث كان جزءا من معبدهم القديم؟!
ليس هناك شك في أن القدس تعتبر مدينة مقدسة لدى أتباع الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. ولن يكون في وسعنا كسب تأييد العالم لقضيتنا، إذا ما نحن أنكرنا وجود أماكن يهودية مقدسة بالمدينة وأنكرنا حقائق تؤكدها المصادر التاريخية. والمنطق السليم يتوقع أن تكون المدينة المقدسة أداة للتقريب بين مئات الملايين من المؤمنين في العالم، ونقطة لقاء تجمعهم. ولأن قضية القدس تتشابك مع قضايا العقيدة والإيمان، أصبح من الصعب حتى على العلمانيين والمؤرخين، الحديث عنها بشكل موضوعي متزن والتعرف على الحقائق بعيدا عن الانفعال العاطفي.