ابو ايهاب حمودة :: المشرف العام ::
عدد المساهمات : 25191 تاريخ التسجيل : 16/08/2009
| موضوع: فلسفة الحنين - محمود درويش الأحد أبريل 21, 2013 3:37 am | |
|
فلسفة الحنين - محمود درويش الحنين مسامرة الغائب للغائب , و التفات البعيد إلى البعيد . الحنين عطش النبع إلى حاملات الجرار, و العكس أيضا صحيح . الحنين يجر المسافة وراء وراء , كأن التطلع إلى أمام, وقد سمي أملا ً, خاطرةٌ شعرية ومغامرة . فعل المضارع حائر متردد, وفعل الماضي الناقص معلق على سروة وقفت خلف تلة ,على ساقها الراسخة , والتفت بأخضرها الداكن , وأرهفت السمع إلى صوت واحد : صوت الريح . الحنين هو صوت الريح . وكلما توغلت في وحدتك , كتلك الشجرة,أخذك الحنين برفق أمومي إلى بلده المصنوع من مواد شفافة هشة , فللحنين بلد و عائلة و ذوق رفيع في تصفيف الأزهار البرية . وله زمن منتقىً برعاية إلهية , زمن أسطوري هادئ ينضج فيه التين على مهل , وينام فيه الظبي إلى جانب الذئب في خيال الولد الذي لم يشاهد المذبحة . ويطوف بك الحنين, كدليل جنة سياحي, في أنحاء بلاده, ويصعد بك إلى جبل كنت تأوي إليه و تتمرغ في النباتات البرية , حتى تتشرب مسام جلدك برائحة المريمية . الحنين هو الرائحة . للحنين فصل مدلل هو الشتاء. يولد من قطرات الماء الأولى على عشب يابس , فيصعد زفرات استغانة أنثوية, عطشى إلى البلل , وعدٌ بزفاف كوني هو المطر. وعد بانفتاح المغلق على الجوهر, وحلول المطلق في ماهيّاتٍ.... هو المطر *** و للحمى صفة أخرى هي الحنين . في كل شتاء يوجعك فرح غائب،وتمشي تحت المطر واحداً في اثنين :أنت و من كُنْتَه في شتاء أخر ، فتفتفت إلى نفسك كلاما لا تفهمه لعجز الذاكرة عن استعادة العاطفة السالفة ، ولقدرة الحنين على إضفاء مالم يكن على ماكان ، كأن تصبح الشجرة غابة، و الجحر حجلة ، و كأن تكون سعيدا في زنزانة تراها أوسع من حديقة عامة ،وكأن يكون الماضي واقفا في انتظارك غدا ككلب وفي. الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب لأنه يكذب بصدق . كذب الحنين مهنة .و الحنين شاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات . وعجوز مازال يحبو لأنه نسي حركة الزمان و تحاشي النظر في المرآة .الحنين هو التزوير البريء للوثائق لحماية مرجعية المنفيّ من الصدأ . وهو الكلس الضروري لتلميع البيوت المهجورة. لكن أحدا لايحن إلى وجع أو هلع أو جنازة . الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد,وترميم شباك سقط دون أن يصل سقوطه إلى الشارع. *** هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة , ولا يولد من الجرح . فليس الحنين ذكرى ، بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة . الحنين انتقائي كبستاني ماهر ، و هو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب. و للحنين أعراض جانبية من بينها : إدمان الخيال النظر إلى الوراء , و الحرج من رفع الكلفة مع الممكن ، و الإفراط في تحويل الحاضر إلى ماض ، حتى في الحب : تعالي معي لنصنع الليلة ماضياً مشتركاً- يقول المريض بالحنين . سآتي معك لنصنع غداً مشتركاً- تقول المصابة بالحبّ. هي لا تحب الماضي و تريد نسيان الحرب التي انتهت . وهو يخاف الغد لأن الحرب لم تنته . ولأنه لا يريد أن يكبر أكثر . الحنين ندبة في القلب ، و بصمة بلد على جسد . لكن لا أحد يحن إلى جرحه ، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل يحن إلى ماقبله, إلى زمان لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي, إلى زمان فردوسي الصورة . و الحنين نداء الناي للناي لترميم الجهة التي كسرتها حوافز الخيل في حملة عسكرية. هو المرض المتقطع الذي لا يعدي ولا يميت ، حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمعي . هو دعوة للسهر مع الوحيد , و ذريعة العجر عن المساواة مع ركاب قطار يعرفون عناوينهم جيدا . و هو مايجمع لأحلام الغرباء من مواد مصنوعة من شفافية اللاشيء الجميل ، و يُحمِّص لهم بُنَّ اليقظة . ونادرا مايأتي صباحا. ونادرا ما يتدخل في حديث عابر مع سائق تاكسي . ونادرا مايتطفل على قاعة المؤتمر , أو على الموعد الأول بين أنثى و ذكر .... هو زائر المساء, حين نبحث عن آثارك في ماحولك ولا تجدها ، حين يحط على الشرف دوريٌّ يبدو لك رسالة من بلد لم تحبه وأنت فيه ، كما تحبه الآن و هو فيه . كان معطىً و شجرة و صخرة ، وصار عناوين روح و فكرة ، و جمرةً في اللغة . كان هواء و تراباً و ماءً ، و صار إلى قصيدة. الحنين أنين الحق العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية .... أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات , يورثه الغائب للغائب، و الحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الأولى ، في المهاجر و المخيمات . الحنين صوت الحرير الصاعد من التوت إلى من يحن إليه في أنين متبادل . هو اندماج الغريزة بالوعي و باللاوعي ... وشكوى الزمن المفقود من سادية الحاضر. الحنين وجع لا يحن إلى وجع . هو الوجع الذي يسبه الهواء النقي القادم من أعالي جبال البعيد, وجع البحث عن فرح سابق . لكنه وجع من نوع صحي ، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل ... و عاطفيون ! *** محمود درويش،في حضرة الغياب 2006 | |
|