حينما يصل شعب ما , إلى أزمة في وجوده وفي مصيره , يطرح على نفسه السؤال المصيري : ما الحل ؟ أو ما العمل ؟ . وهذا ما حدث مع الشعب الفلسطيني في الواقع الراهن , بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة . إذ أصبح مهددا في هويته كشعب متوحد خلف علم واحد وشعار واحد ونظام سياسي واحد .
لقد انهار المشروع الوطني الفلسطيني , بل انهارت القضية الفلسطينية برمتها , فبعد أن كنا نسعى إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف , أصبح لدينا دولتين بعلمين وشعارين وخطابين سياسيين , وتحول الصراع من صراع مع العدو الرئيسي , إلى صراع بين أبناء الوطن الواحد .
مع قيام السلطة الوطنية الفلسطينية وتركيزها على تنفيذ اتفاق أوسلو , طرحت مراكز البحث سؤالا : المعارضة الفلسطينية .. إلى أين ؟ , كان السؤال متركزا حول المعارضة ودورها في الوضع الفلسطيني الراهن آنذاك .
ثم أخذ للبحث في قضايا فرعية مرتبطة بالوضع الفلسطيني : كالاستيطان , وحق العودة , وقضية اللاجئين , والتواصل بين غزة والضفة , الفلتان الأمني , المعابر , الحواجز ... الخ .
وبعد 14 سنة على قيام السلطة الفلسطينية عام 1994م , أصبح مناقشة الوضع الفلسطيني كله , مما يعني الرجوع إلى نقطة الصفر 0
إذن عادت غزة إلى سيرتها الأولى في عام 1994 , وكل ما تم تحقيقه من انجازات سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي , تم مسحه وكأنه لم يكن .
ما الأسباب التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى نقطة الصفر ؟ لماذا لم يتمكن من المحافظة على المنجزات التي حققها ؟ . هل السبب حركة فتح , أو حركة حماس , أو القوى الفلسطينية الأخرى , أو الاحتلال , أو أمريكا , أو الأنظمة العربية , أو المجتمع الدولي , أو هيئة الأمم ؟ . في الحقيقة كل هذه الأطراف تتحمل جانبا من جوانب هزيمتها السياسية0
إن فوز حركة حماس الساحق في الانتخابات التشريعية وجدت نفسها مسئولة عن شعب لا يملك مقوماته الاقتصادية , ويعيش على المنح الخارجية . وكان عليها أن تتخذ خطوات عملية لتحقق مصلحة الشعب الذي أوصلها إلى الحكم وجدت نفسها مطالبة بالموافقة على شروط الرباعية والاتفاقيات التي ابرمت من قبل السلطة الوطنية والمنظمة لفك الحصار .
كان المشروع الوطني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية , قد وقع اتفاق أوسلو , لينهى حالة الصراع مع العدو الإسرائيلي , مما دفع الدول العربية التي كانت لا تجرؤ على التحدث مع إسرائيلي فما بالك بالصلح , إلا أن موافقة الفلسطينيين فتحت لهم الأبواب للهرولة نحو إسرائيل , وبذلك تحول المشروع الوطني العربي من حالة العداء إلى حالة المصالحة .
وحينما وقع إسحاق رابين رسالة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني , لم يأت على ذكر أنها الممثل الوحيد , بما يعني أن ثمة ممثل آخر مازال رافضا المصالحة , لا تنكر إسرائيل وجوده ودوره في الحياة السياسية الفلسطينية , وهذا الممثل ليس عضوا في منظمة التحرير , إذن نترك له الباب مفتوحا , والزمن كفيل بتغيير المواقف .
ومن هذا المنطلق هيئت الظروف والأوضاع لتصل حركة حماس إلى الحكم ليس كمعارضة في المجلس التشريعي , بل حاكمين للشعب ومتحملين مسؤوليته .
وأخذت زيارات كوندليزا رايس المكوكية للمنطقة , للضغط على حماس عربيا وإسرائيليا وفلسطينيا , لتنفيذ المطلوب أمريكيا وإسرائيليا بالمزيد من التنازلات والاعتراف بشروط الرباعية , الداعية إلى اعتراف حماس بإسرائيل , ونبذ العنف والإرهاب ولكن حماس رفضت كل هذه الضغوطات 0
حيث اصبح الوضع داخل الأراضي الفلسطينية، وخاصة في قطاع غزة، صعب للغاية، يصل إلى حد الكارثة، لأن سيطرة القوى الفلسطينية على نفسها، وعلى غيرها، وعلى مجريات الأحداث، تكاد تكون معدومة، وهذه المحادثات، والحوارات، واللقاءات التي يجريها الفلسطينيون مع أنفسهم أو مع غيرهم، تدور جميعها بلا أفق، تماماً كمن يدخل نفقاً طويلاً مظلماً، ولكن لا يلوح في نهايته أي بصيص من الضوء!!! والمفزع أيضاً، أن القوى الإقليمية والدولية التي تتعاطى مع الوضع الراهن الفلسطيني تزيده سوءاً، وتزيده تدهوراً، وتدفع به إلى فقدان السيطرة نهائياً، بل تدفع به إلى الجنون.
أولاً: لأن هذه الأطراف الإقليمية والدولية، تزيح النار على قرصها، كما يقول المثل الشعبي، أي تريد مصلحتها، تريد رؤيتها، تريد تقديرها الذاتي للموقف، حتى وإن تعارض كل ذلك او تناقض مع مصلحة الشعب الفلسطيني، وهكذا نكتشف في نهاية كل محاولة مع الآخرين، وفي نهاية كل استجابة للآخرين، أنه لا مصلحة لنا، ونفجر إحباطنا وخيبتنا في أنفسنا، ونستعيض عن الهزيمة المرة بوهم انتصارات تافهة جداً ضد بعضنا !.
ثانياً: لأن الشعب الفلسطيني اصبح موضوعا إقليمياً ودولياً في حالة شاذة من فقدان الوزن، واختناق الانتظار السلبي، وهي حالة لا ينتج عنها موضوعياً سوى الاقتتال الداخلي.
- ولمزيد من التوضيح تعالوا ننظر إلى الموقف الإقليمي والدولي من حولنا، لكى نرى بوضع أن هذا الموقف يسجننا فلسطينياً في علبة من الحديد الصلب، اسمها علية الانتظار، فإسرائيل تشركنا لكي تعرف ما هي الخطوة القادمة، هل تسقط حكومة أولمرت، هل تذهب إلى انتخابات مبكرة، هل تفتح باباً مغلقاً مع سوريا، هل ينفجر الوضع مع إيران؟.
وبالتالي فان إسرائيل لا تستجيب لشيء مما نطرحه عليها، لا تستجيب للتهدئة، ولا تستجيب للمفاوضات، ولا تستجيب حتى لأبسط الالتزامات التي تعهدت بها من تلقاء نفسها، أو بالتفاهم معنا، أو بالتفاهم مع المجتمع الدولي.
أما المجتمع الدولي: وخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الاميركية، فإنها تتقدم خطوة وتتراجع إلى الخلف خطوتين، وكلما حقق الفلسطينيون بعض مطالب المجتمع الدولي، ومن بينها حكومة الوحدة الوطنية ببرنامج سياسي معقول، وجدنا مطالبات جديدة، ومعاذير جديدة، بل إن قمة الدول الثماني الصناعية، التي عقدت في مدينة(روستوك) الألمانية على شاطئ بحر الشمال، هذه القمة ذهبت ولو بالوعود إلى أماكن كثيرة، إلى بونبج بانج في كوريا الشمالية، وإلى إيران، وإلى فقراء القارة الأفريقية التي وعدتهم بستين مليار دولار، وإلى دارفور، والدرع الصاروخي، والبيئة وطبقة الأوزون، ولكنها تركت الموضوع الفلسطيني المأزوم والكارثي وراءها في علبة الانتظار.
- وفوق ذلك كله فان القوى الدولية تعلم علم اليقين، أن الفقر هو العدو الأول للأمن، ولكن هذه القوى الدولية تصنع الفقر الفلسطيني بامتياز، وبإتقان مدهش0
- وأمام الفقر الفلسطيني فإن القوى الإقليمية والدولية تقف في صف واحد، وتقف بانسجام واحد، رغم أن البعض بارعون في ذرف الدموع، الكل يساهم في صناعة الفقر الفلسطيني، إسرائيل التي تحتجز من أموال الفلسطينيين، الخالصة رقماً يقترب حثيثاً من المليار دولار، والاتحاد الأوروبي الذي يماطل في استئناف التزاماته مع السلطة الوطنية، وكذلك الحال وربما أسوأ بالنسبة للموقف الاميركي، ودول الإقليم حولنا، ومنهم الأشقاء العرب، لا يبذلون أي جهد في تكسير الحصار.
الكل شركاء في الكارثة، الكل شركاء في الجريمة، وهذا لا يعنى أننا نبرئ أنفسنا، بل على العكس من ذلك، فإننا فلسطينياً نلعب مع أنفسنا لعبة شاذة جداً، حيث نقوم بدور الضحية ونقوم أيضاً بدور الجلاد لأنفسنا وعلى أقل تقدير فإننا بسلوكنا السياسي الهابط نعطى الجلادين ( الكرباج) الذي يجلدوننا به.