ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
أهلا وسهلا بكم في ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
عذرا /// أنت عضو غير مسجل لدينا الرجاء التسجيل
ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
أهلا وسهلا بكم في ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
عذرا /// أنت عضو غير مسجل لدينا الرجاء التسجيل
ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة

شهداء فلسطين
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بكتك العيون يا فارس * وبكتك القلوب يا ابا بسام
إدارة ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة ترحب بكم أعضاءً وزوارً في ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
محمد / فارس ( إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقكم لمحزونون

 

 عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابو ايهاب حمودة
:: المشرف العام ::
:: المشرف العام ::
ابو ايهاب حمودة


عدد المساهمات : 25191
تاريخ التسجيل : 16/08/2009

عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام) Empty
مُساهمةموضوع: عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام)   عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام) Emptyالأحد ديسمبر 19, 2010 1:10 am


عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام) E6E3V-Rmv2_274458038

عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام)
ونلاحظ أن القرآن ينقل قصة، ولكن يعبر عن هذه القصة بأنها من أحسن القصص.. فهنالك قصة تقال للتسلية، ولإظهار شخصية خرافية، كما هو في كل الأمم.. ولكن هذه القصة من الوحي، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.. حيث أن هنالك نوع منّة من الله عز وجل، في ذكر قصص الغابرين من أنبيائه العظام.
إن هذه الحروف المقطعة في سورة البقرة {الم}.. وفي سورة يوسف {الر}.. وفي سورة آل عمران {الم}.. إلى آخره من السور، فقد كثرت الأقاويل في هذه المقطعات القرآنية، التي لم تعهد في أي مؤلف.. حيث أننا لا نرى مؤلفا في حياة الشعوب، تبتدأ بهذه الحروف المقطعة، حتى لعله في الإنجيل والتوراة الحقيقيين، قد لم تكن هذه القضية متكررة؛ ولكن في القرآن نرى هذه الظاهرة.. فهناك رأيان أساسيان حول هذه المسألة:
الرأي الأول: أنها رموز بين الله عز وجل، وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هم كالنبي.. فالله عز وجل يريد أن يخاطب أولياءه ببعض الرموز، وهم يعلمون هذه الرموز.
الرأي الثاني: وهو أن الله عز وجل يريد أن يقول: بأن القرآن مركب من هذه الحروف.. ولكن بالنسبة إلى هذا القول الثاني: فلماذا تكرار بعض المقطعات: {الم} مثلا؟.. ولماذا اختيار هذه الأحرف؟.. ولماذا اختيار حرف {ص} أو {ن} أو ما شابه ذلك؟..
وعليه، فإن مسألة الرمزية هي الأقرب، والبعض قال: الله أعلم بمراده.. فجعل نفسه في زاوية الجهالة المطلقة، وقال: نحن لا نفقه تفسيرا لهذه الكلمات.. إن القرآن معظمه بيّن وظاهر، ما عدا هذه المقطعات، والآيات المتشابهة.
إن في قصة يوسف صلوات الله وسلامه عليه، بعض الدروس المهمة:
يلاحظ من سياق سورة يوسف (ع)، أن أخوة يوسف (ع) لم يكونوا من الكافرين، بل كانوا مؤمنين بالله عز وجل.. ولهذا تراهم يقسمون بالله عز وجل: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}.. فإن قال قائل: بأن هذه التعابير كانت متأخرة، وعندما همّوا بقتل يوسف –عليه السلام- لم يكونوا مؤمنين.. فإن هذا القول تدفعه هذه الآية: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.. والغريب أن هؤلاء كان بودهم أن يقعوا في قلب أبيهم موقعا حسنا، ويريدون أن يتوجه إليهم يعقوب كتوجهه إلى يوسف!..
وعليه، فإن على الأب أن لا يظهر التمييز في مقام التعامل مع أولاده، فالشيطان في المرصاد، والحسد من المعاصي الأولية على هذه الأرض.. ويبدو أن هؤلاء اكتشفوا بأن هنالك توجها من يعقوب لهذا النبي العظيم.. ويوسف (ع) كما نعلم، لم يكن جماله جمالا طارئا، وإنما كان جماله معه منذ الصغر: جمال ظاهري، وروح تحمل مقدمات تلقي النبوة.. فيا له من جمال ظاهرٍ وباطن!.. فمن الطبيعي أن يميل إليه يعقوب، ويبدو ذلك من تصرفه.
إن قولهم: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.. أي بعد ذلك نتوب إلى الله عز وجل، ونصبح من الصالحين.. وهذه هي حالة الاستهزاء بالتوبة، إن البعض منا يرتكب الفواحش، ويعمل بعض المنكرات، أو قد يتوغل في عالم الشهوات المحللة، على أمل أن يصل يوما من الأيام، ويعود إلى جادة الحق.. ولكن أنّى له ذلك؟!..
فإذن، إن هذا المنطق ذكره القرآن الكريم.. وهو منطق لا يمكن أن يقبل، أي أن يُقدم الإنسان على المعصية، على أمل أن يوفق للتوبة في يوما من الأيام.. فالإنسان مادام لم يخرج من هذه الدنيا سالما، ومادام لم تختم له بالعاقبة الحسنة، فليتوقع في نفسه كل شيء.. فالشيطان بالمرصاد، وهو الخبير بإغواء الأمم.. وهكذا دخل في نفوس أخوة يوسف، الذين تربوا في حضن نبي من الأنبياء.. وما قاموا به، لم يكن مقابل رجل كبير.. فقابيل قتل هابيل، ولكن كانوا في مستوى بعضهم البعض.. أما بالنسبة إلى طفل صغير كيوسف، هذا الولد البريء، والجميل، وذو الصفات الحسنة.. فكيف طاوعت لهم أنفسهم محاولة قتله؟.. فهذا يكشف أنه لا أمان من شر الشيطان، من أن يجر الإنسان إلى أعظم المعاصي.. ويقال بأنهم كانوا عشرة، وكلهم أجمعوا على قتل يوسف.. فعشرة مقابل يوسف وأخيه، وهما ولدان صغيران، وفي المقابل عصبة متشكلة!.. ونحن نعلم أن الانحراف قد يأتي لولد، أو لولدين، أو لثلاثة، أما أن أولاد نبي يجمعون على كبيرة من الكبائر، وكبيرة شرعية، وكبيرة لا إنسانية!.. فإذن، إن النفس الإنسانية معرضة لكل كبيرة، لولا العصمة الإلهية، والأمان من شر الشيطان اللعين الرجيم.
إن هذا الشيطان العدو اللدود، له خبرة عريقة.. فقد حاول مع أبناء يعقوب، وأوصلهم إلى هذه الدرجة المتدنية من الميل إلى الجريمة.. فما بالنا نحن الذين لسنا في مستوى المواجهة مع هذا العدو اللدود؟!..
إن من المحطات الملفتة في حياة نبي الله يوسف -صلوات الله وسلامه عليه- هي ملاحظة أن اليد الإلهية هي التي تسوق الأنبياء، فمثلا: إبراهيم (ع) وإخراجه من النار.. وموسى (ع) وإخراجه من النيل.. ويونس (ع) وإخراجه من بطن الحوت.. فهذه اليد أيضا تعاملت مع يوسف (ع) بنفس المعادلة، فلو أن السيارة أو القافلة، قد تأخرت يوما أو بعض يوم، لمات جوعا، وهو في أعماق ذلك البئر.. ولكن تأتي السيارة في الوقت المناسب، فيدلي دلوه، ويرون هذا الغلام.. وبالتالي، يأتي رب العالمين بالمدد الغيبي، ليستخرج وليه من أعماق البئر.. إن هذه اليد عولوا عليها.
إن الإنسان المؤمن لا يحسب حساباته، فهناك ورد ما مضمونه: (يا عبدي ادعني ولا تعلمني).. أي أنت اطلب مني الهدف، أما ما هي الوسيلة؟.. وما هي المراحل؟.. فاترك الأمر إليَّ!.. فيوسف -عليه السلام- وهو في أعماق البئر، من المؤكد أنه كان يدعو إما بلسان حاله، أو بلسان مقاله.. ولم يكن يتوقع أن تكون النجاة بهذه الطريقة، والنجاة من أين؟.. وإلى أين؟.. من أعماق البئر، إلى ذلك المكان الفرعوني، إلى بيت العزيز، حيث الترف، وحيث الراحة!.. وإذا به وخلال فترة قصيرة، ينتقل من العالم الضيق، إلى ذلك العالم المترف.
ثم انظروا إلى تصرفات الله عز وجل في قلب الملوك!.. إن البعض يظن أن الله عز وجل يتصرف في قلوب الصالحين فقط.. فعندما يبتلى الإنسان ببلية، ويكون علاج هذه البلية بيد ظالم، فعليه أن لا ييأس من روح الله عز وجل.. فالذي قلّب قلب فرعون، الذي يقتل الأولاد الصغار، والرضع، لئلا يلد فيهم مثل موسى.. وإذا بهذا القلب يتحوّل، ويحتضن القاتل، وهو موسى.
وانظروا إلى هذا العزيز!.. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}.. ومن المعروف بأن عاطفة الأبوة والبنوة، تحتاج إلى جذور فطرية.. فالإنسان يحنُّ إلى ولده الذي من صلبه، وهذا ولدٌ استُخرج من البئر، لا يعرف حسبه ولا نسبه.. وإذا بهذه العاطفة التي تأتي من خلال سنوات، من البنوة والأبوة، توجد في قلب هذا الرجل، وفي قلب زوجته.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}.. إذا أراد الله عز وجل أن يهيأ الأسباب هكذا يهيئ.. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين}.. {بَلَغَ أَشُدَّهُ}.. أي مرحلة النضج والشباب، فالشاب الذي له وعي والتفات، حتى لو كان دون العشرين، يمكن أن يعبّر عنه بأنه بلغ أشده.. فإذن، إن سن الأربعين هي سن ما بعد بلوغ الأشد.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.. إن العلم الذي يعطيه رب العالمين، هذا العلم لا يتخلف عن الواقع.. فنحن نجد في أنفسنا علما، أي ينكشف لنا الواقع من خلال صورة ذهنية.. ولكن لم نصل إلى الواقع، وإنما صورنا الواقع في أنفسنا تصويرا، وقد يطابق الواقع، وقد لا يطابقه.. وعلماء الفلك هذه الأيام، يدّعون العلم بالمجرّة الكذائية، بالأوصاف الكذائية، وذلك من خلال المعادلات والتحاليل، يصلون إلى مرحلة العلم المبدعة، بينما الواقع محجوب عنهم.. ولكن العلم الذي يأتي من قبل الله عز وجل، فهذا العلم يكشف الواقع.. وعليه، فنحن علماء، ولكن بجهل مركب: أي نحن جاهلون، ولكن لا نعلم أننا من الجاهلين.
فإذن، إذا أراد الله عز وجل، أن يمنّ على عبدٍ فتح له باب الانكشاف الباطني، وفتح له كما فتح للقمان باب الحكمة، فيرى الأمور بحقائقها.. فبالنسبة للأنبياء إن دائرة هذا العلم واسعة، ويعرفون كثيرا من الأشياء: تأويل الرؤى، وما وراء الغيب، وما وراء الجدر إلى آخره.. والمؤمن يسأل الله عز وجل، أن يعطيه انكشافا بمقدار ما يحتاج إليه.. صحيح أن العلم لا يأتيه بكل أبعاده، ولكن يعطيه من العلم ما يرى به طريقه اليوم، مثلا: كيف يتعامل مع زوجته؟.. وكيف يربي ابنه؟.. وكيف يصل أرحامه؟.. وأين يسافر؟.. وأين يلقي عصا الاستقرار؟.. واختيار مواطن المعيشة؟.. ومواطن الهجرة؟.. وأسباب الرزق؟.. فإن كل ذلك من الأمور الخافية علينا.. فأين رضا الله؟.. وأين المصلحة؟.. فنحن لا نعلم، لذا على الإنسان أن يسأل الله تعالى أن يفتح له هذه الأبواب.
والجميل في الآية أنها تقول: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، فهذا العلم يُعطى، ولكن ليس جزافيا، وإنمل يحتاج إلى أرضية: الإحسان، والعلم، والجهاد الدائب.. فإذا كنت على هذا المستوى من الالتزام في الشريعة -ظاهرا وباطنا- فقد رشحت نفسك لهذا العلم الإلهي.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ}.. إن هذه الأساليب الثلاثة، هي التي تستعملها النساء اللواتي، يردن إيقاع الفريسة في فخوخهن:
أولا: {وَرَاوَدَتْهُ}.. راودته، أي كان الكلام بلين، وبرفق.. فالمرأة التى تريد أن تصطاد فريستها من الشباب، من الطبيعي أن تلجأ إلى الكلام المعسول، وإلى رقة القول.. فالله عز وجل خلق المرأة، وجعل فيها هذه القابلية.. ويمكن تمييز صوت الرجل من المرأة، من خلال حروف، ومن وراء الهاتف –مثلا- فالرقة سمة كلام المرأة.. وهذه المرأة استعملت هذه الرقة، للإقاع بيوسف.
ثانيا: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ}.. أيضا من مكائد النساء: الخلوة، وعدم وجود الرقابة الاجتماعية، وعدم الخوف من الفضيحة، والابتعاد عن الأضواء، والذهاب إلى الظلمات، حيث لا يمكن أن تراقب.
ثالثا: {وَقَالَتْ هَيْتَ}.. أي ما بقي إلا أن تقدم، فهي تأمر أمراً بإصرار وبإلحاح، بعد المقدمتين السابقتين: المراودة برفق، واللينة في القول.. وتخلية الأجواء، بطرد الرقباء.. ثم تقول: الآن ما بقي إلا أن تقدم على ذلك الأمر.
إن ليوسف (ع) عبارات جميلة وبليغة، فقد قال هذه العبارات في تلك الخلوة، ومن وراء الأبواب المغلقة.. وإذا بعد آلاف السنين رب العالمين يكشف ما قاله يوسف في تلك الغرف المغلقة.. نعم، هكذا إذا أراد أن يظهر فضيلة يظهرها!.. وإذا أراد أن يكشف عن فضيحة كشفها أيضا.. {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.. إن أول جواب قاله يوسف: {مَعَاذَ اللّهِ}.. فلم يقل: هذا حرام، وهذا لا يجوز، وهذا يدخل نار جهنم.. لم يذكر ذلك أبدا، إنما {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ}.. الاستعاذة بالله عز وجل، وكأن يوسف (ع) بهذه العبارة تبرأ من حوله وقوته، أي يا رب!.. أنت الذي أستعيذ بك، وأنت الذي ألتجأ إليك.
{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}.. أي يا زليخة!.. هذا جواب نعم الله عز وجل!.. وقد أخرجني من الجب!.. وأكرمني في أحضان أبي يعقوب!.. وجعل محبتي في القلوب!.. وجعل هذا الرجل يتخذني ولدا!.. وأعطاني هذا الجمال!.. وبعد ذلك، ولأجل لحظات من الشهوة، أنكر هذا الجميل من رب العالمين!..
فإذن، هذا درس للشاب عندما يتعرض لهذا الموقف، فليتذكر الكم الكبير من النعم الإلهية المتوجهة إليه، وليحذر هذه الصفقة الخاسرة، وأن تسلب منه هذه النعم بدقائق معدودة: هذا العلم المعطى، وهذه الحكم، وهذا الامتياز، وهذا القرب.. هل يبيعه الإنسان في هذا الموقف؟.. أبدا!.. {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.. هو الفلاح بيده، والفوز بيده.. والذي ظلم نفسه، فإن رب العالمين لا يمكن أن يفتح له أبواب التوفيق.
لا زلنا في رحاب سورة يوسف (ع)، وما جرى على هذا العبد الصالح، هذا الصدّيق الذي أُبتلي.. ولكن خُتمت عاقبته في الدنيا بخيرٍ، ورئاسةٍ، وتمكّنٍ في الأرض، وما أعده الله له من الأجر في الآخرة أعظم وأعظم.
لم يكفها عامل المراودة، وإغلاق الأبواب، وما شابه ذلك من عوامل الإثارة.. بل قرنت الإثارة بالتهديد أيضا: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.. أي إن لم تقبل ما آمرك به، فإن مصيرك هو السجن.. وأدوات التأكيد: اللام، والنون {لَيُسْجَنَنَّ} كل ذلك يدل على عزمها على ذلك.
يقول يوسف (ع) في جواب هذا الاقتراح: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.. فيوسف (ع) لم يطلب من الله السجن، فلم يقل: ربي أدخلني السجن.. لأن العافية خير للمؤمن، فالإنسان المبتلى في بدنه، وفي أمنه، وفي رزقه ليس من المعلوم أنه يثبت على الابتلاء.. وعليه، فإن طلب العافية خير من غير العافية، ولهذا قال يوسف (ع): {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}.. ولم يطلب من الله السجن.
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. فإنه لا زال يثبت ويبين لربه، أنه بحاجة إلى مدد دائم.. وإلا وقع فيما لا يحمد عقباه.. ولعل في الآية إشارة لطيفة جدا، قد لا تمر على الأذهان الساذجة البسيطة.. فيوسف (ع) يريد أن يقول بأنه: يا رب!.. أنت لك مدد، وأنواع من المدد يأتيني من قِبلك.. فإذا انقطع هذا المدد، سوف أكون من الجاهلين.. فلم يقل هنا: من الظالمين، بل قال: {مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. معنى ذلك: أن المدد الإلهي تارة يكون إيقاعا للعزم في القلب، أي تثبيتا للفؤاد.. وتارة المدد الإلهي من قبيل العلم، والعلم مدد من الله عز وجل.. فيقول يوسف: لو قطعت عني المدد، لبقيت في زمرة الجاهلين.
فإذن، إن رب العالمين له أنواع من الرزق، منها: تثبيت الفؤاد، والعلم الذي يُلقى في فكر الإنسان، فيزداد علما.. فمثلا: إن موسى (ع) هو كليم الله، ومن أنبياء أولي العزم، وله تاريخ عريق في التوحيد والدعوة إلى الله تعالى، ومقارعة فرعون.. ومع ذلك فإن هناك نوعا من العلم -العلم اللدني- أوتيه الخضر، ولم يؤتَه موسى.. ولهذا لم يكن يستوعب حقيقة ما يجري مع ذلك العبد الصالح.
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. أيضا استعمل كلمة العلم هنا، لأن الله عليم.. وهنا –بالمناسبة- نقرر قاعدة مهمة: وهي أن الله عز وجل فياض، لا يمنع فيضه إلا موانع العبد.. فهو عليم، يريد أن يمنَّ بعلمه على من يشاء بمقدار ما يشاء.. ولكن العبد بخطئه، وبجرمه، وجريرته، يُوجد هذه الحجب.
{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.. فمن أجل الحفاظ على وجاهة المرأة -زليخا- ودفع التهمة عن البيت الملكي، حُكم على يوسف (ع) بالسجن، رغم أنهم رأوا علامات البراءة: القميص قُدّ من دبر، وشهد شاهد من أهلها.. فعلامات الصدق موجودة، والنسوة قطعن أيديهن.. ومع ذلك جعلوا يوسف في السجن، لأجل الحفاظ على ماء وجه البلاط، الذي كان يحكم في مصر.
ومن الطريف أنهم رموا بيوسف في السجن إلى أن تهدأ الأوضاع، ولكن يبدو أنهم نسوا يوسف في غياهب السجون.. ولهذا عندما خرج ذلك السجين قال له يوسف: اذكرني عند ربك، واطرح مشكلتي مع الملك.. فأنا في زوايا سجون مصر منذ سنوات ولا ذنب لي!.. نعم، {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.. كما يقول القرآن الكريم، فديدنهم الإفساد إلا من خرج بالدليل.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}.. تنقل الآيات قصة المنام، وهنا أيضا لا بد أن نسجل كلمة حول المنامات.. مع الأسف نلاحظ أن بعض الناس يبني أفكاره، وتصوراته، وتقييمه للأمور على أساس الرؤيا.. فمثلا: إنسان يرى مؤمنا أو مؤمنة، في هيئة غير حسنة في منام من المنامات التي لاحجية لها، ويبني على ذلك موقفا، ويحكم بالسلب على ذلك الإنسان؛ وهذا انحراف في التصور.. فالمنام عبارة عن صور تمر على النفس عند خروج الروح، وانفصال الروح عن البدن، كما يعبر القرآن {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
فإذن، إن ما يُرى في حال النوم قد يكون حقا، وقد يكون باطلا.. حتى إذا رأيت المعصوم في المنام، لا يمكنك الجزم بأنه هو المعصوم.. ولهذا قال العلماء: أن المعصوم لو أمرك في المنام بأمر، لا يجب امتثال ذلك الأمر.. وفي نفس الوقت أيضا المنام الصادق تفسيره، يحتاج أيضا إلى قدرة غيبية، لأن الأحلام رموز، وعبارة عن حركات لها مغزى.. إن كان المنام صحيحا، فإنه يحتاج إلى من أوتي العلم في هذا المجال.. فليس كل إنسان له التخويل في أن يفسر المنام.. وعليه، فإن من رأى مناما وأسره، كفاه الله خيره وشره.. فما على الإنسان إلا أن يدفع صدقة، ليُدفع عنه البلاء.. وأما أن يلهج به أمام هذا وذاك، ليفسر له أيضا تفسيرا يبعث فيه أملا أو خيبة أمل، فلا داعي لمثل ذلك.
ولهذا فإن القرآن الكريم يذكر بتفصيل قصة المنام، وكيف أن يوسف عبّر ذلك المنام بإلهام من الله سبحانه وتعالى.. ولكن أيضا من الدروس العملية في هذه القضية بعد أن ذكروا المنام قالوا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}.
فالدرس الأول: هو أنه إذا أردت أن توصل فكرة إلى إنسان، وتقنعه بأمر من الأمور، فإن الخطوة الأولى، هي أن تجلب ثقة ذلك الشخص، إذا كان لا يعرفك، ولا يقدرك.. وإلا، فكيف لك أن تؤثر فيه؟.. فيوسف عليه السلام قال: أنا ذلك الشخص الذي أخبركم بالطعام قبل أن يأتيكما.. فإذن، أنا إنسان مرتبط بالغيب، وأنا إنسان غير عادي.. وعليه، فإنه قد عرّف نفسه، لجلب الثقة.. وليس هذا من المديح المذموم.. فالفخر والمديح، وأن يبين الإنسان خواصه الذاتية في حدّ نفسه، هو من مصاديق العجب المذموم.. وأما إذا كانت القضية مقدمة للتبليغ، فلا مانع من ذلك.. فمثلا: إنسان له تخصص في الحياة، وهذا التخصص محترم في العرف، وأراد أن ينصح إنسانا، فلا بأس أن تذكر مستواه العلمي، ومستواه الثقافي، والشهادات الأكاديمية من باب أن يعرِّفه أنه إنسان خبير في بعض الأمور، وعاش الدنيا وما فيها.
فإذن، لا بأس في المديح، ومديح الذات.. فالقرآن يقول في مكان آخر: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.. بينما هنا يوسف (ع) يزكي نفسه مقدمة للإرشاد.. وأيضا كان بإمكان يوسف أن يجيب على المنامين، وانتهى.. ولكن يوسف يريد أن يستغل الموقف لصالح الدين، فأخذ يبلّغ الدين والدعوة الإلهية في زمانه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.. وهذه العبارة {الْقَهَّارُ} ذهبت مثلا من يوسف؛ أي إذا أراد شيئا قهر الوجود وفق ما يريد، خيرا كان أو شرا، في الإنسان أو الطبيعة.
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}.. أي أنتم تعبدون الأوهام، فقد جعلتم للماء إلها، وللفلك إلها، وللشمس إلها، إنها أسماء مخترعة لا مسميات.. فأنتم تركضون وراء السراب، وتركتم الرب الواحد القهار.. ونحن في حياتنا اليوم كالكفار والمشركين، نعبد -بمعنى نطيع- عناوين وهمية: الفوقية، وعنوان الرئاسة، وعنوان السيطرة، وعنوان الغلبة، وعنوان التحكم في المنزل وخارج المنزل، فإننا نعبد هذه الأمور.. فهذه الأيام ألا تقام الحروب والقتال لأجل أن يكون الإنسان رئيسا، والرئاسة عنوان اعتباري في المجتمع؟.. فيوسف عليه السلام يقول: أنتم أسراء الأسماء، وأنا عبد للمسمى الواحد، ذلك المسمى الواحد القهار.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.. هذه الواحدية، وهذا التوحيد؛ ليس في عالم الذهن فقط، وليس في عالم الحب القلبي فقط.. وإنما في عالم الممارسة في الحياة {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}.. إن الأنبياء منذ آدم، إلى الخاتم، إلى القائم صلوات الله عليهم، كلهم يلهجون بذكر الله والتوحيد.. فالبركات كل البركات في التوحيد: فروع الدين مستقاة من التوحيد، وفروع الدين من آثار التوحيد، والأخلاق في التعامل مأخوذ من التوحيد.. فالذي لا يرى في الوجود مؤثرا إلا الله عز وجل، من الطبيعي أن يؤمن بالرسالات، وبالإمامة، وبالمعاد، وبفروع الدين، وبالخلق الإسلامي القويم.. فإن كل ذلك فرع التوحيد؛ فأول التوحيد معرفة الجبار، وآخر التوحيد تفويض الأمر إليه.
ثم في ختام هذا التعبير أيضا، لا مانع من أن يسعى المؤمن لتحسين وضعه.. أولا زكى نفسه، ثم عرف نفسه، ودعا إلى التوحيد، وبلّغ الدين، ثم ذكر تعبير المنام، ثم استفاد من الفرصة.. فليس من الحرام، أن يخلّص الإنسان نفسه من ضيق الحياة الدنيا؛ صحيح أن الرب هو المدبر، وهو المؤثر.. ولكن له وسائط، فيوسف وهو النبي الصديق، ذلك الملهم، ليس عنده مانع أبدا أن يجعل هذا الإنسان وسيلة خير، لأن ينقل تظلمه وشكواه، وما وقع عليه من الظلم عند الملك قائلا: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}.. هناك قول آخر: بأن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه، ولكن هذا لا ينسجم مع المخلَص.. فيوسف -بشهادة القرآن- أُعطي وسام المخلَصين، فكيف ينسى ذكر الله عز وجل، ويتخذ من ذلك العزيز المنجي في قبال الله سبحانه وتعالى؟!..
{فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}.. إن الذي خرج من السجن ذهب عند أهله، واشتغل معهم، ونسي صاحب الحق، هذا الصديق الودود، والنبي الذي كان معهم في السجن، فالشيطان أنساهم ذلك.. وهنا أيضا وقفة مؤثرة في أن الشيطان يحارب المؤمن حتى في هذه الزاوية.. إذا أريد أن يصل إليك خير من أحد، ويرى الشيطان بأن هذا الخير من دواعي قربك إلى الله عز وجل، قد يتدخل في نفس ذلك الإنسان، وينسيه ذكرك.. لئلا يصل إليك خير من الخيرات.. فالشيطان سلطانه قد يتجاوز مسألة الوسوسة إلى مثل هذه التصرفات.
{فلبث في السجن بضع سنين}.. البضع يقال لما دون العشرة، فيوسف (ع) بقي في السجن هذه المدة.. فمن هوان الدنيا على الله عز وجل، أن يوسف صاحب هذا الجمال البشري، وذلك الجمال الروحي، والذي أوتي من العلم الغيبي هذه العفة، وهذه النزاهة، أن يعيش في زوايا السجون.. وذلك العزيز الظالم، الذي جعل هذا الإنسان البريء في غياهب السجون، يسرح ويمرح على وفق مراده!.. ولهذا فإن البعض عندما يصل إلى ذكر الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه يشبهه بيوسف.. هناك شبه بين يوسف وبين إمامنا المغيب: فهو في هذه الدنيا، وبين ظهرانينا.. ولكنه مسجون في سجن الغيبة، ولم يؤذن له بإظهار أمره، فيرى الأمور بيد الظالمين والمنحرفين عن طاعة الله عز وجل، وينتظر فرجه في كل يوم.. ولكن الله عز وجل مسبب الأسباب.
ولكن الله عز وجل سلط على الملك مناما مرعبا مقلقا، {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}.. إنها حركة جيدة، وحركة علمية نزيهة.. فالبعض يريد أن يتودد إلى السلطان، بدعوى علم ما لا يعلم.. ولكن هؤلاء {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}.. شيء جيد أن يعترف الإنسان بجهله، ولو كان في ادعاء العلم بعض المزايا والتزلف من السلاطين مثلا.
وهنا تذكر ذلك السجين السابق صاحبه {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}.. تذكر يوسف هذا الذي كان يعبّر الرؤى في السجن، فهو الشخص المناسب لهذه الحركة، فأرسلوا وراء يوسف {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.. ويا للعجب!.. عندما خرج من السجن نسي هذا الصديق، والآن عندما احتاجه أصبح صدّيقا؟.. ولكن يوسف (ع) لم يكتم علمه، بل بيََّنه {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
ولكن قبل ذلك عندما جاءه الرسول -يبدو والله العالم من سياق الآيات- وقبل أن يؤول طالب بحقه: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.. أي اسألهم قبل أن أفسّر الرؤيا، واثبتوا براءتي، وأعطوني حقي هذا الذي سُلب مني.
وبالفعل {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}.. وبعد سنوات -يريد الله عز وجل أن يظهر براءة وليه- فـ{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.. الآن ظهر الحق.
فخرج يوسف (ع) من السجن، وأُعفي عنه، واتخذ موقعا من البلاط، ومن قلب الملك.. وظهرت البراءة، وتبين الحق.. ومع ذلك تراه يتواضع لله عز وجل، فيقول: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. فهناك يقول: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. وهنا مرة أخرى وثالثة يقول: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. إنها حالة التذلل الدائم مع رب العالمين.
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}.. هنا لفتة جميلة يقال هنا: أصبُ إليهن، أي أعملُ أعمال الصبيان، فالذي يتوجه إلى الشهوات، هو صبي في نفسه، وصبي في عقله، حتى لو بلغ من العمر ما بلغ.. وهو ما نلاحظه من إقبال بعض كبار السن على شهوات الدنيا.. يقول يوسف: هذه الحركة الغريزية، هي حركة صبيانية، وحركة لا تنم عن بلوغ باطني.. فهي لفتة جميلة في هذا المجال، حيث ربط الحركة الغرائزية بالحركات الصبيانية.. وقال الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}.. فالآن بدأت مرحلة الفرج لهذا النبي العظيم.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِه}.. هنا كيف نفسر همت به؟.. من الطبيعي أن ما كانت تنويه زليخا، كان أمرا واضحا.. فهي لا تريد إلا ذلك المنكر المعهود.
{وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.. لا ينبغي أن ننكر بأن يوسف لم يكن ملكا، بل هو بشر، وله ما للشباب في عنفوان شبابه.. وطبيعة الشاب في هذا السن، وخاصة مع المغريات المعهودة: المراودة، وإغلاق الأبواب!.. بالإضافة إلى أنها لم تكن امرأة عادية.. بل كانت في ضمن حرم العزيز، فمن الطبيعي أن كل هذه الدواعي موجبة للإثارة.
ولكن هذه الأمور كلها، لم تكن لتوجب أن يقترب يوسف من المنكر أبدا!.. لأنه {رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.. والبرهان هو ذلك السلطان، الذي يهيمن على القلب.. وذلك اليقين، الذي إذا دخل القلب كما يصفه علي عليه السلام: (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم).. فهذا الواقع الخارجي، الذي هو زليخا بما أحاطها من عوامل الإثارة في جهة.. وبرهان الرب، أي الجمال الإلهي الذي كان يراه يوسف، وتذكر النعم الإلهية: فهو الذي أحسن مثواه، ومعرفة يوسف المعرفة اليقينية بعواقب الأمور، وفناء هذه الدنيا، وعاقبة الصابرين على المعاصي والمطيعين.. فإن كل هذه الأمور، وهذه المعاجين من الأمور التي أورثت يوسف ذلك اليقين، الذي جعله لا يبالي بما أمامه، في جهة أخرى.. بل وصل الأمر بيوسف كما نقرأ في الآيات اللاحقة -وهنا سر العظمة- أن يرى السجن أحب إليه مما هو فيه: فالسجن حيث الخلوة مع رب العالمين.. والسجن حيث انتفاء عوامل الإغراء.. والسجن حيث الذكر الخالص.. والسجن حيث الانقطاع إلى الله عز وجل.. فهذا أوفق لمزاج يوسف من هذا الوضع الذي كان قد وقع فيه.
{لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.. معنى ذلك أن الإغراء مهما كان عظيما، والجمال البشري مهما كان فتانا، والخلوة، والمراودة، وكل هذه الأمور.. فإن من يصل إلى اليقين، والاطمئنان بأن ما ادخره له الله عز وجل في الآخرة أعظم، عندئذ لن يرى أي أثر لهذه الإغراءات.
إن الشباب يسألون عن سر التفوق على هذه الأمور!.. إن السر قد ذكر في هذه الآية، فلا يكفي أسلوب الوعظ دائما، والتخويف من عواقب الأمور.. فمثلا: شاب غرائزه مشتعلة، ويرى جمالا بشريا مثيرا مغريا.. فإذا لم تقدم له البديل، وإذا لم تفتح عينه على جمال أجمل وأبقى، لا يقاس بجمال المادة، سوف تزل قدمه في يوم من الأيام.
فإذن، إذا أراد أحدنا أن يتعالى على الشهوات بكل أنواعها، لا بد وأن يسلك هذا السبيل، وأن يصل إلى برهان من الله عز وجل، وإلى حالة يقين واطمئنان بأن ما ادخره الله عز وجل له في الآخرة، هو أفضل بكثير مما يرى في هذه الحياة الدنيا.. وما يريه لأوليائه في الدنيا من صور الجلال والجمال، هذا يشغله عن كل شيء.
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء}.. قال: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء}، ولم يقل: نصرف يوسف عن السوء.. السوء هو الذي يُصرف عن يوسف، والفحشاء هي التي تصرف عن يوسف.. بمعنى أن الفحشاء لا تقترب، والسوء لا يقترب من يوسف، لعدم انسجام وملاءمة بين المقترِب والمقترَب منه.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.. إن كلمة المخلَصين من الكلمات المعبرة في القرآن الكريم، ولا يستعمله القرآن الكريم، إلا في مواضع مخصوصة، عندما يريد أن يصف الناجين من كيد إبليس، فيستثني المخلَصين فحسب!.. وعندما يريد أن يذكر الذين صرف عنهم السوء والفحشاء، أيضا يذكر المخلَصين.. فالفارق فتحة وكسرة، وبينهما فارق كبير.. فالمخلِص هو الذي يحاول أن يتشبّه بالمخلَصين، ويحاول أن يكون مخلصا، وأن يدعي الإخلاص في موقف، أو في موقفين، أو أقل من ذلك، أو أكثر.. ولكن المخلَص هو ذلك الذي اجتباه رب العالمين، والذي أُمضيَ إخلاصه، والذي قُبلَ إخلاصه.. ألم نقل في نبي الله أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}.. لا يجد نفسه صابرا، الله وجده صابرا.. فالمخلِص يجد نفسه مخلِصا، ولكن المخلَص وجده الله مخلِصا، فاجتباه فجعله في هذه الدائرة المقدسة.. فهؤلاء لا طمع لإبليس فيهم، لأن الله عز وجل جعلهم في دائرة حمايته.
{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ}.. إنها هي المهاجمة، وهو مدبر عنها، بظهره وبقلبه، فخرج هاربا منها.. إن شبابنا اليوم، إذا رأوا شهوة بسيطة، يهجمون على الشهوات.. ويوسف بما أوتي من البرهان، يفر فرارا من هذا المنكر.. فإذا وصل الإنسان إلى مرحلة استقذار المنكر فقد فاز، وإذا وصل إلى مرحلة يجد المنكر مما يُقرف منه، ومما يُستقذر، فقد فاز.. وهنا فرار يوسف، فرارٌ من القبيح، فلا يفر ونفسه تنازعه إلى المنكر.. وليس حاله لسان حال ذلك الشاعر حيث يقول: هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى * وإني وإياها لمختلفان نحن مثلنا مثل الناقة التي لها فصيل في بلد، ويريد صاحب الناقة أن يسوق ناقته إلى بلد آخر.. والناقة تسير وحنينها إلى الفصيل الذي ترك في البلد.. ونحن هكذا، هوانا في هذه النفس الصغيرة، التي عودناها على ما هو الفاني.. ولكن يوسف ليس كذلك.
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}.. هكذا أراد الله عز وجل أن يفضح زليخا، فغلّقت الأبواب، على ظنٍ منها أن الأمر لن ينكشف، ويبقى سرا مكتوما بينها وبين يوسف.. ولكن بمجرد أن استبقا الباب، وإذا بالسيد يرى هذا المنظر.. فقد رأى خرق القميص من الخلف، ومعنى ذلك أن هناك هجوما منها.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}.. ومع ذلك شهد شاهد من أهلها، وهذا الشاهد من أهلها، قد قيل فيه أقوال، وقيل في روايات أهل البيت، أنه كان صبي في المهد، أراد الله عز وجل أن يجري المعجزة كما أجراها لعيسى عليه السلام، لئلا يبقى شك في أن زليخا هي المعتدية.. وعلامة الاعتداء {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ}.. فهنا انكشف الحق، وعلق تعليقا لم ينفه القرآن الكريم: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.. فهذه الفتنة هي من كيد النساء، إنه كيد عظيم، لماذا؟.. لأن الله عز وجل، ولأجل حكمة التناسل وزيادة النسل البشري، جعل في الإنسان هذه الغريزة.. وإلا فمن الذي يتبرع بنصف حياته، وبأمواله، وبسهره، وبقلبه، وبحبه، ويمنحها لزوجته، وخاصة عند الزفاف والعرس وما شابه ذلك؟!.. فالذي يدفعه دفعا حثيثا هذه الغرائز الملتهبة في الباطن.
فجعل الله عز وجل هذه الغريزة، لإدامة النسل البشري.. ويا لها من غريزة!.. حقيقة هي من أعلى صور التجاذب في الوجود، تجاذب الأنثى والذكر.. ولهذا فإن الروايات تصرّح بأنه ما خلا اثنان امرأة ورجل غير محرمين، إلا وكان الشيطان ثالثهما.. ذلك الذي يحاول أن يكمل هذه العملية.. فهناك تجاذب فطري غريزي، والشيطان لا يهدأ إلا أن يوصل بينهما بالحرام، الذي تقتضيه تلك الخلوة.
ثم أن هذه المرأة التي وقعت تحت طائلة العتاب والمعاتبة، أرادت أن تثبت بأنها معذورة في موقفها في إصرارها {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.. إن الإنسان عندما ينتابه الذهول والاستغراب في شيء كالجمال البشري، هكذا يذهل إلى درجة تقطع المرأة يدها، وهي لا تشعر بهذا الجمال، الذي قلن عن ذلك الجمال {حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}.. فالذي يرى شيئا من جمال الله عز وجل، المنكشف في الصلاة، لما ترك الصلاة: (لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال الله ما سرّه أن يرفع رأسه من سجوده).
إن البعض أراد أن يستنكر مقولة أن عليا عليه السلام، كان يعالج بعض جراحه: إخراجا لسهم، أو ما شابه ذلك في أثناء الصلاة.. فالبعض رآها من المبالغة، وإذا بأحدهم يُلهم هذا الجواب من القرآن الكريم.. فقال لذلك المعترض: إن النسوة رأين جمال يوسف -وهو جمال بشري- فقطعن أيديهن.. وأنتم تعلمون بأن النسوة ما رأين جمال باطن يوسف.. فباطن يوسف أجمل من ظاهره بكثير.. ذلك الباطن الذي تلقى برهان الرب، وذلك الباطن الذي يقول: يا رب السجن أحب إلي.. هذا الباطن هو الباطن الباقي.. ولكن النسوة رأين ظاهر الجمال، فقطعن أيديهن، فكيف إذا رأين باطن الجمال البشري؟.. فكيف إذا رأين باطن الجمال الإلهي؟.. فحق لعلي أن يصاب بتلك الغشية بين النخيل أو غير ذلك، عندما كان يناجي ربه.. وحق له أن لا يشعر بهذه الأمور.
فليطلب الإنسان من ربه في ساعة خلوة، وفي زيارة لبيته، وفي ساعة رقة، أن يريه شيئا من هذه العوالم، ليزهد في كل شيء ما سوى الله (ألا كل شيء ما عدا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل).
وكذلك من دروس هذه القصة: أن كرامة المؤمن عزيزة على الله عز وجل.. فصفاء يوسف، وأمانة يوسف، وبراءة يوسف؛ انكشفت من الباب.. استبقا الباب وإذا بالعزيز، وإذا بالقميص المثقوب من الخلف.. وإذا بالطفل الصغير ينادي، ويشهد بمن هي المجرمة.. وإذا بهذه المرأة في ملأ من النساء، تعلن بأنه كان لي الحق في أن أنجذب لهذا الجمال.. إن الله عز وجل حريص على كرامة عبده، ولهذا برّأه في الساعات الأولى، ففي الدقائق الأولى بعث الأسباب.. ولهذا إذا أحدنا أصيب في سمعته، أو اتُهم في شيء من أموره، صحيح عليه أن يبادر بشريا إلى دفع التهمة عن نفسه، ولكن ليفوّض الأمر إلى ذلك الذي يقول عن نفسه في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.. أنت اسع سعيا بشريا، فوكِّل محاميا، وتكلم.. ولكن الله عز وجل خير المحامين، وخير المدافعين، وخاصة إذا انقطعت بك الأسباب.. فالله عز وجل ناصر لمن لا ناصر له.
إن يوسف انكشف أمره، وانكشف جماله.. فهو لم يرَ الدماء وهي تسيل من أيدي النساء، ولعاً وشغفا بجماله.. فالإنسان العادي قد يعجب بنفسه، ما هذا الجمال الذي سلب العقول؟..
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.. التفتوا إلى كلمة {أَحَبُّ}، لو قال: ربي السجن أنفع لي، أو السجن أحفظ لديني، أو السجن أكثر مصلحة لي.. لما كان ليوسف تلك الدرجة العليا، التي تجعل رب العالمين يخصص سورة -تقريبا- لقصة هذا النبي العظيم.. وهنا بيت القصيد أيضا، أن تتحول المعاني الإلهية والعرفانية إلى معان محبوبة، لا إلى عناوين مصالح، ولا إلى عناوين فيها رجحان أبدا.. فصلاة الليل تطابق مزاج المؤمن، لأنه إذا لم يقم الليل، فإن نهاره سيكون نهارا تعيسا، لأنه فقد الخلوة مع حبيبه (اللهم!.. هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كلّ حبيبٍ بحبيبه).. فإذا فاته الموعد، فاته قطار اللقاء مع الرب الودود.. فعندها يعيش الأمرّين تلك الليلة، نعم، هكذا تتجافي جنوبهم عن المضاجع، فأجسادهم تجفو الفراش.. ما قيمة الفراش ومَن على الفراش، في مقابل ذلك اللقاء الجميل مع رب العالمين؟..
ويبقى يوسف وجلا، خائفا.. صحيح هو على مستوى من العصمة، وقد رأى برهان الرب، ونجح في الامتحان، حينما غلّقت الأبواب.. ولكنه مع ذلك يبقى خائفا وجلا، فيقول: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. فهو دائما يعيش حالة التذلل، وحالة الخوف.. فالمؤمن هذه حالته، وشعاره شعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولعله كان يكثر من الدعاء: (اللهم!.. لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا.. اللهم!.. لا تردنا إلى سوء استنقذتنا منه أبدا.. اللهم!.. لا تسلب منا صالح ما أعطيتنا أبدا).. إذا أُعجب الإنسان بنفسه، ورأى أن ملكاته لا تفيده، فإن هذا أول الامتحان.. إن يونس (ع) تركه الله عز وجل فترة من الزمن، وإذا مصيره في بطن الحوت.. إن يوسف (ع) يعيش هذه الحالة من التربص والخيفة {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.. إن يوسف (ع) يذكر في هذه الآية قوام النجاح الوظيفي، فإذا أردنا أن نختار موظفاً لأعمالنا، علينا أن نختار الحفيظ العليم، أي صاحب التخصص وصاحب الأمانة.. فإذا كان الطبيب أو المهندس جامعاً للصفتين: الخبرة في العمل، والأمانة في الأداء.. فهو الإنسان النموذجي، لأداء الأعمال الدنيوية.. {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ}.. أي وزير مالية، ووزير المالية – كما يقول يوسف عليه السلام- لا بد أن يكون حفيظاً وعليماً.
{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}.. بمجرد أن اعترفوا بالخطيئة نرى أن أجواء الرحمة تحفهم جميعاً.. وهذا هو أسلوب تعامل رب العالمين مع أوليائه.. ففي بطن الحوت قال يونس (ع): {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}.. وهنا كذلك نلاحظ المغفرة، فيلاحظ أنه في كل مراحل حياة إخوة يوسف، لم ينقطع ارتباطهم بالله عز وجل: فهم يقسمون بالله في بعض الأماكن، وفي سياق سورة يوسف، لم يُرى من كلمات أخوة يوسف، ما يدل على كفرهم.. ولهذا فإن الله عز وجل يغفر الذنوب جميعاً، إلا أن يُشرك به.. فما قاموا به ليس بالأمر الهين، وهو إلقاء صبي بريء في الجب، بنية القتل، وهو ابن نبي، وهو نبي في طريقه إلى الدعوة!.. ولكن الله عز وجل غفر لهم حيث {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وعليه، فإذا كان الله عز وجل يغفر هذا الذنب العظيم، بمجرد استغفارٍ واعترافٍ بالخطيئة!.. فكيف بباقي الذنوب التي هي دون هذا الذنب العظيم؟.. فهذا درسٌ لنا جميعاً أن لا نيأس من رحمة الله عز وجل.. فكما هو معلوم أن قوام التوبة أمران: الندم على ما مضى –أي الإعتراف بالخطيئة- والعزم على عدم العود.. فما أسهله من طريق!.. إن البعض يعقّد عملية التوبة، فيفوّت التوبة على النادمين.. بينما يجب أن نقول لهم: ما عليك إلا الندامة، والعزم على عدم العود، وإذا كانت هناك تبعات: دنيوية، أو عبادية قضائية، أو مالية، إلى آخره.. يجب القيام بها بالإضافة إلى التوبة.
{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.. {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي}.. إن هذا الكلام هو كلام سيدنا يوسف عليه السلام، وإنما خصّ قميصه بالذكر، لأن لهذا القميص خصوصية، وهي الملاصقة لبدن هذا النبي، الذي كان من المخلَصين.. أي أن الإنسان إذا دخل في دائرة الجذب الإلهي، أصبح من شؤون المولى.. وبتعبير العلماء: أصبحت له شرافة انتسابية مضاعفة إلى الله عز وجل.. فكل موجود منتسب إلى الله عز وجل انتساب الخالقية والمخلوقية، ولكن بعض الناس بالإضافة إلى صفة المخلوقية، فإن لهم صفة العابدية، والخضوع لله سبحانه وتعالى.. عندئذ تصبح شؤون هذا الإنسان من شؤون الله سبحانه وتعالى.. إن المهد الذي وضع فيه موسى (ع) من شؤون الله، {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}.. وكذلك آثار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن هذه الحجارة التي في جبال مكة، لها صفة المخلوقية، ولكن عندما نُحتت هذه الحجارة، وأصبحت عبارة عن لبنات لبناء الكعبة، أصبحت من شؤون الله عز وجل، وهكذا.
فإذن، إن المعصوم أو النبي صحيح أن روحه روحٌ مقدسة، ولكن هذا التقدس في الروح، يسري إلى الوجود المادي لذلك المعصوم.. فلا يمكن أن ندعي بأن قبر النبي كباقي القبور، وبأن جثمانه الشريف كباقي الأجسام التي تموت في هذه الدنيا.. فللأمور المادية المحيطة بذلك المعصوم انتسابٌ إلى الله عز وجل.. وهذا المعنى كان مرتكزاً حتى في أذهان المذاهب.. وقد جاء أبو حنيفة إلى الإمام الصادق (ع) ليسمع منه، وخرج الصادق يتوكأ على عصاً، فقال له أبو حنيفة: يا بن رسول الله!.. ما بلغتَ من السن ما تحتاج معه إلى العصا، قال: هو كذلك، ولكنها عصا رسول الله أردت التبرّك بها.. فوثب أبو حنيفة إليه وقال له: أُقبّلها يا بن رسول الله؟.. فحسر الصادق (ع) عن ذراعه وقال له: والله لقد علمتَ أنّ هذا بَشَرُ رسول الله (ص)، وأنّ هذا من شعره، فما قبّلته وتقبّل عصا!..
وبالتالي، فإن القرآن الكريم يعودنا من خلال آية: {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا} على هذا النمط من التفكير.. أي أن الأمور المادية المنتسبة إلى الله سبحانه وتعالى ولأوليائه لها خواص.. وكذلك السامري الذي أخذ قبضة من أثر الرسول فعمل ما عمل.
يلاحظ من خلال الآية أن يعقوب عليه السلام، له ما له من الكرامة عند الله عز وجل {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.. حيث أن الله سبحانه وتعالى عرفه بتعريف الغيب ذلك.
{فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا}.. بمجرد أن أُلقي ذلك القميص الذي يحمل هذه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
عبر من حياة الانبياء(تأملات وعبر من حياة سيدنا يوسف عليه السلام)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» عبر من حياة الأنبياء (تأملات وعبر من حياة نبي الله صالح عليه السلام )
» عبر من حياة الأنبياء (تأملات وعبر من حياة النبي سليمان عليه السلام )
» عبر من حياة الأنبياء (تأملات وعبر من حياة النبي موسى عليه السلام )
» عبر من حياة الأنبياء (تأملات وعبر من حياة النبي ابراهيم عليه السلام )
» عبر من حياة الأنبياء (تأملات وعبر من حياة أبينا آدم عليه السلام)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة :: ملتقى الشخصيات الإسلامية-
انتقل الى: