ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
أهلا وسهلا بكم في ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
عذرا /// أنت عضو غير مسجل لدينا الرجاء التسجيل
ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
أهلا وسهلا بكم في ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
عذرا /// أنت عضو غير مسجل لدينا الرجاء التسجيل
ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة

شهداء فلسطين
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بكتك العيون يا فارس * وبكتك القلوب يا ابا بسام
إدارة ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة ترحب بكم أعضاءً وزوارً في ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة
محمد / فارس ( إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقكم لمحزونون

 

 الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابو ايهاب حمودة
:: المشرف العام ::
:: المشرف العام ::
ابو ايهاب حمودة


عدد المساهمات : 25191
تاريخ التسجيل : 16/08/2009

الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول) Empty
مُساهمةموضوع: الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول)   الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول) Emptyالجمعة نوفمبر 26, 2010 4:12 pm

الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول) D8qt4-SA7H_687012668

الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول)-
جدلية التمدين والسلطة -
مقدمة الكتاب (وضعها الدكتور عبد الرحيم تمحري)
هذا المؤلف متعب، لكل قارئ محترف، نظرا لغزارة هوامشه، وكأن الأمر يتعلق بمؤلفين في مؤلف واحد.
إنه مؤلف زئبقي نظرا لكثرة الافتراضات التي ينطلق منها في كل فصل، بل وفي كل رأي يطرحه، مع هدمه للفرضيات التي وضعها آخرون كالعروي وسمير أمين وفوكو، وحتى القدامى كابن هشام وصحبه... من هنا سجاليته وجدليته، وأيضا شغبه، لأنه يخاصم كثرة كثيرة من البديهيات التي لا تتعلق فقط بتاريخ المغرب خلال القرنين الأول والثاني للهجرة (7 و8 للميلاد)، بل وأيضا أوليات Maximes في التاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا والدين والفلسفة.
إن الجهد التنظيري الذي بذل فيه أقوى من المادة التاريخية ذاتها، وكأنه مؤلف في تاريخ الأفكار، محاولة تركيبية للحدث التاريخي في مختلف أبعاده، ولهذا نتوقع أن يثير، وينبه، ويجلب بالتالي ردود أفعال أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لن ترتاح للذي يوقظها من سباتها ما قبل الإبستيمولوجي، ويزلزل قناعاتها وأقانيمها، وسيكون في ذلك إغناء للموضوع ولشكل الكتابة التاريخية عموما.
(د. عبد الرحيم تمحري)
الفصل الأول:
مدن بلاد المغرب قبل الفتح:
- مفهوم بلاد المغرب في الإيستوغرافيا العربية الكلاسيكية.
- مفهوم التمدين عند العرب.
- وضعية التمدين ببلاد المغرب قبل مجيء الإسلام.
مفهوم بلاد المغرب في الإيستوغرافيا العربية الكلاسيكية.
نكتفي هنا بإثارة الإشكالية: مفهوم واحد لمضامين متعددة.
أهم ما يبرز في الكتابات العربية الكلاسيكية حول تحديد بلاد المغرب هو التضارب بين هذه الكتابات حول منطقة جغرافية مضبوطة من حيث التحديد المفهومي: "بلاد المغرب" لكنها تظل غامضة من حيث المضمون الدلالي، وتبرز صعوبة وضع حدود مضبوطة كأهم إشكالية تعرقل هذه الدلالة. لذا ننوه منذ البداية إلى أن مفهوم "الحدود" وتطوره عبر التاريخ يحتاج لدراسة مفصلة مختصة، حتى نتمكن من استيعاب بلاد المغرب (كوحدة يقصد بها التجانس)، وتطور الحدود بين بلدانها المختلفة (الأدنى – الأوسط – الأقصى).
فقبل المؤرخين العرب، كان اليونانيون يطلقون اسم الليبيين – ومن ثم منطقة ليبيكا – على مجموع سكان أفريقيا المنتمين للجنس الأبيض، أي من غرب مصر إلى المحيط الأطلنتي، بينما ميز الرومانيون، لاحقا، بين إقليم قرطاجة، وإقليم نوميديا، وبلاد المور غربا، وأطلقوا اسم الجيتوليين على سكان الجنوب الرحل (بوجيبار 1984 ص151، سعود 1979 ص49).
ومع مجيء العرب للمنطقة أطلقوا عليها اسم "بلاد المغرب" حتى تتم المقابلة بينها وبين البلاد الأخرى أي "بلاد المشرق" (علما بأن العرب عودونا على مثل هذه المقابلة، مثلا: بلاد السودان مقابل بلاد البيضان) لكن ما بلاد المغرب هذه وما هي حدودها؟
لا شك أن لفظ المغرب يفهم منه مباشرة الجهة التي تغرب إليها الشمس، ومن ثم يمكن لأي شخص أن يحدد جهة المغرب تبعا للموقع الجغرافي الذي يشغله، ها هنا يمكن أن نضع الفصل الذي كتبه ابن خرداذبه (1889 ص72) بعنوان «الطريق من مدينة السلام إلى المغرب» وكذا ما سجله قدامة بن جعفر (1889 ص213) عندما كتب «ثم لنأخذ في تبيين الطريق من مدينة السلم إلى أكناف المغرب ونواحيه.» فالرجلان، وبحكم وجودهما ببغداد، يجعلان المغرب كل ما يقع غرب هذه المدينة، إلا أنهما يميزان جيدا بين المغرب كجهة من الجهات الأربع، وبلاد المغرب التي نحن بصدد البحث عن مضمونها الدلالي.
يكتب ابن خرداذبه عدة صفحات (ص85-92) يخصصها «للطريق من برقة إلى المغرب» نفهم منها أن برقة هي الحد الفاصل بين مصر وبلاد المغرب، التي يدرج ضمنها الأندلس أيضا، بينما يكتب ابن جعفر (ص265) بأن أول ثغور الغرب «افريقية وهي المسمى (كذا) القيروان» وهو يتوقف عندها (القيروان) ولا يصف ما يقع غربها، وكأنه يعلن ضمنيا بأن هذه المناطق قد خرجت عن دار الخلافة، فهي لا تدفع الخراج للخلافة بالمشرق، وبالتالي فلا حاجة لوصفها.
قبل ذلك كان ابن عبد الحكم والبلاذري قد أقصيا فعلا مصر من حدود بلاد المغرب، فقد ذكر الأول (1964 ص28) بأن الحد بين المنطقتين هو لوبية ومراقية (بين الإسكندرية وبرقة) «وهما كورتان من كور مصر الغربية». بينما ذكر الثاني (1987 ص314) بأن عمرا بن العاص لما فتح الإسكندرية «سار في جنده يريد المغرب»، لكنه لا يحدد بدقة الفاصل بين الإقليمين، وهو الإشكال الذي يصادفنا أيضا عند معالجة بعض نصوص الطبري (1991 ج2 ص597).
وعلى حين يذكر ابن حوقل (1979 ص65) صراحة بأن الأندلس «جزيرة... في جملة المغرب»، يضيف إليها القيرواني (1990 ص7) أرض السودان أيضا، يكتب صاحب الاستبصار (1985 ص109) بأن بلاد المغرب تحدها شرقا الإسكندرية وغربا البحر المحيط دون إدخال الأندلس، رغم أنها كانت جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية الموحدية إذاك، وقبله كان الإدريسي (م1 ص322) قد رسم الحدود بين مصر والمغرب في بلاد الواحات، وهو التحديد الذي استهوى الحميري (1984 ص55) فتبناه أيضا، وإن أضاف (ص32) بأن «الأندلس آخر المعمور في المغرب». بينما يفصل النويري (1984 ص173) جيدا بين الأندلس والمغرب، فيكتب مثلا: «الباب السادس من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار أفريقية وبلاد المغرب» وكان قد خصص بابا للأندلس وحدها (ص55). ثم نقرأ عند ابن عذاري (1980 ج1 ص5) بأن «حد المغرب هو من ضفة النيل بالإسكندرية... إلى آخر بلاد المغرب، وحده مدينة سلا» ثم يستأنف حديثه فيقول: «وصار المغرب كالجزيرة دخل فيه بعض أعمال مصر، وأفريقية كلها والزاب والقيروان والسوس الأدنى والسوس الأقصى، وبلاد الحبشة، ومنها يتفرع نيل مصر» (ص6) ثم لا يلبث أن يستدرك «وبلاد الأندلس أيضا من المغرب» (ص6)، دعوة تجد صداها عند القرماني (ص326) الذي يوافق على أن «الأندلس جزيرة كبيرة بالمغرب» لكنها لا تلاقي استحسانا من طرف ابن خلدون (1971 ج6 ص101) الذي أقصى الأندلس ومصر وبرقة ولم يعدها من بلاد المغرب، وهو التحديد الذي أثر على ابن سعيد فتبناه في كتاب الجغرافيا (1982 ص123...).
يأتي الوزان أخيرا (1980 ج1 ص25)، ليشكك في كل ذلك عندما يذكر بأن «العرب لا يكادون يعتبرون أفريقيا سوى ضاحية قرطاجة نفسها، بينما يطلقون اسم المغرب على سائر أفريقيا»، وأفريقيا هذه، التي تساوي المغرب عنده، هي الواقعة بين بلاد النيل وأعمدة هرقل، بإضافة السودان وبغض النظر عن الأندلس (ص25).
ونحن نتصفح هذه الكتابات ندرك مدى اللبس والارتباك الذي تردد فيها: لقد حاولنا ترتيبها كرونولوجيا حتى نضع أصبعنا على تطور المفهوم، لكننا وجدنا خلطا كبيرا بين هذه المصادر، وأحيانا كثيرة بين مصدرين يعاصران بعضهما، مما جعلنا في حيرة من أمرنا حول مضمون بلاد المغرب في الإيستوغرافيا العربية، وهي حيرة نلمسها أيضا عند القبلي (1987 ص9...) عندما عرض لمفهوم بلاد المغرب أثناء معالجته موضوع التجارب الوحدوية الوسيطية بالمغرب الكبير، وهو ما دعاه لأن يضع ثلاث مستويات لتحديد هذا المفهوم: مستوى ديني يضع دار الإسلام مقابل دار الحرب، ومستوى جغرافي حضاري يضم الأندلس وبلاد السودان ويقف شرقا عند حدود مصر، ثم مستوى ثالث عصبي عرقي اعتمادا على العصبيات النازلة أو الحاكمة لإقليم أو منطقة ما.
وإذا كان المستوى الأول، الديني، مرفوض في رأينا لأنه لا يتعلق ببلاد المغرب وحدها وإنما كل دار الإسلام، والمستوى الثالث، العصبوي، مرفوض أيضا لأن تحديد بلاد المغرب اعتمادا على العصبيات أمر يطرح أكثر من إشكال نظرا لتداخل هذه العصبيات، فإن المستوى الثاني، الجغرافي/الحضاري، الذي يهمنا أكثر مرفوض بدوره، لأنه انطلق من التحديد المجالي الذي رسمه القبلي لموضوعه، وليس من التحديد الذي يرد في الإيستوغرافيا العربية، مما يجعل الإشكال قائما من جديد.
فما يبدو متفقا عليه من الناحية الذهنية، هو في الواقع مثار نزاع شديد من ناحية المضمون: إن كل دراسة محدثة تتناول بالبحث هذا المجال الرحب "بلاد المغرب" (الرحب ليس من الناحية الجغرافية فقط، وإنما الإبستيمولوجية أيضا) وتجزم بوضع حدود مضبوطة له، تكون قد انطلقت، في الواقع، من قناعات ذاتية تعكس فكر الباحث والوجهة التي يريد أن يوجه لها موضوع بحثه وليس من مفهوم "بلاد المغرب" كما يرد في الإيستوغرافيا العربية الكلاسيكية.
مفهوم التمدين عند العرب.
لا يقل هذا المفهوم إشكالا عن سابقه: فإذا كان مضمون بلاد المغرب قد سقط في مأزق "الحدود"، فإن مضمون التمدين قد اختلط بدوره بمضمون القرية، وفي أحيان أخرى امتزج بمفاهيم مغايرة كالمصر أو الحصن أو غيرها من المفاهيم.
فقد ورد لفظ المدينة في القرآن الكريم في عدة مناسبات: ‹﴿ومن أهل المدينة مردوا على النفاق﴾› التوبة/101. ‹﴿وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى﴾› يس/20، ‹﴿ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها﴾› القصص/15... وعندما نبحث عن معنى المدينة في الآية الأخيرة نجد أن المقصود بها، حسب ابن إسحاق، "مصر" (القرطبي 1993 ج7ص172)، فالمقصود بالمدينة هنا بلادا بأكملها وهي مصر، وكأن ذلك يشبه تعريف القرماني (ص362) عندما ذكر بأن «أفريقية مدينة كبيرة بالمغرب» رغم أنها ترد في مصادر أخرى (ابن عبد الحكم ص33، ابن خرداذبه ص85، البلاذري ص316) على أنها صفة لإقليم وليس مدينة، إذ نقرأ عند ابن عبد الحكم مثلا فصلا بعنوان: ذكر استئذان عمرو بن العاص عمر بن الخطاب في غزوة أفريقيا (ص33)، نفهم منه أن الرجل يتكلم عن منطقة شاسعة هي بلاد إفريقية، لكنه لا يلبث هو نفسه أن يذكر (ص51) بأن عقبة بن نافع بعد فتح طرابلس وودان سأل الناس: «هل من ورائكم أحد؟ فقيل له: جرمة، وهي مدينة فزان العظمى» بيد أننا نقرأ في هامش الصفحة ذاتها، من تعليق محقق الكتاب، بأن فزان ولاية شاسعة بين الفيوم وطرابلس.
وكما يتحدث ابن عبد الحكم عن إقليم فزان على أنه مدينة، يتحدث ابن خرداذبه (ص87) عن الزاب على أنه مدينة أيضا، والدلالة نفسها تحملها منطقة وادي درعة عند البكري (1857 ص149)، في معرض حديثه عن قبائل مسوفة، إذ يقول: «وهم بنو مسوفة من صنهاجة، ليس لهم مدينة يأوون إليها إلا وادي درعة... ».
أما كتب الطرائف والأخبار الغريبة فبدورها لم تخل من حديث عن المدن والتمدين، لكنها لا توضح مضمونه أبدا، فالأبشيهي مثلا يقول: «روى وهب بن منبه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمران في الخراب إلا كخرذلة في كف أحدكم» (ج2 ص139). وإذا كنا لم نجد لهذا الحديث ذكرا في كتبه المختصة (فنسنك 1991)، فإننا وجدنا تعقيب الأبشيهي عليه بالآتي: «وجميع مدائن الدنيا أربعة آلاف مدينة وخمسمائة وست وخمسون مدينة» (ج2 ص139) وكأني به قد عدها جميعا! ومعروف أن الأبشيهي هذا هو الذي يجمع أخبارا (ج2 ص139...) من نوع الصرح الذي بناه النمرود من الرصاص والحجارة والشمع واللبان وطوله خمسة آلاف ذراع، وإرم ذات العماد المبنية بالذهب والياقوت والجواهر وبها مائة ألف قصر على عمد من أنواع الزبرجد واليواقيت معقودة بالذهب طول كل عمود مائة ذراع...
وعندما نلجأ للمعاجم العربية نجدها لا تزيد الأمر إلا لبسا، فابن منظور (م5 ص455) الذي حل الإشكال من الناحية اللغوية: مدن بالمكان أي أقام به، يخلط في المضمون الاصطلاحي، فيعود بنا إلى مفهوم الحصن تارة: «المدينة: الحصن يبنى في أصطمة الأرض... وكل أرض يبنى بها حصن في أصطمتها فهي مدينة»، وإلى مفهوم المصر تارة أخرى: فلان مدن المدائن، مصر الأمصار. لكن مفهوم المصر عند ابن منظور يقصد به القرية أيضا: «القرية والقِرية لغتان: المصر الجامع... والقارية والقاراة: الحاضرة الجامعة» فيمتزج المضمون هنا بالمدينة تماما كما فعل الأصفهاني (ص417) في تفسير الآية: ‹﴿وما كان ربك ليهلك القرى﴾› هود/117، عندما قال بأنها اسم للمدينة، وهو المنحى الذي نهجه القرطبي (م8 ص11) في تفسير الآية: ‹﴿واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون﴾› يس/13، فيذكر أن المقصود بها أنطاكية، رغم أننا نعلم بأن أنطاكية مدينة وليست قرية!
خلط نجده عند الجغرافيين العرب المختصين أيضا، كما وقع للحميري في أكثر من مناسبة (ص316،12،11): «أجرسيف مدينة في أحواز تلمسان... كبيرة» ويتابع: «أجرسيف قرية كبيرة»، ويقول عن سروس: «وهي أم قرى جبل نفوسة وهي مدينة جليلة».
فهل نعذر بعد هذا ابن سلام (ص52...) الذي لا ينظر للمدن العربية، قبل الإسلام وبعده، على أنها مدن بمعناها الوظيفي، أو على الأقل لا يقدمها على هذا النحو، فقد خصص فصلا من كتابه عنونه: "شعراء القرى العربية" وهن خمس: المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين، بل لا يتوانى عن الكتابة: «قرية المدينة» وكأنه لا يدرك بأنه قد جمع بين مفهومين يختلفان اختلافا جذريا، يصل حد التضاد، من حيث الوظيفة والمحتوى؟
على كل حال فالوضعية تزداد تأزما عندما يشعرنا ابن منظور في مكان آخر من "لسانه" (ج5 ص80) بأنه يميز جيدا بين القرية والمدينة فيقول: «وفي حديث علي كرم الله وجهه: أنه أتي بضب فلم يأكله وقال إنه قروي، أي من أهل القرى، يعني إنما يأكله أهل القرى والبوادي والضياع دون أهل المدن».
أمام هذا الاضطراب في تحديد مفهوم المدينة، نجدنا مضطرين لاستقراء عدة فصول من مقدمة ابن خلدون لاستخراج بعض خصوصيات هذا المفهوم، ذلك أن ابن خلدون نفسه لم يقدم تعريفا واضحا ناجزا للمدينة، وظل دائما يقرنها بمفهوم المصر، لكنه يقدم لنا بعض الملامح التي تساعد على ضبطه وتحديده، فهو يعتبر أن «وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها، بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة» (ص122) كما يعتبر أن المدن والأمصار تتميز بالهياكل والأجرام العظيمة والبناء الكبير، لذلك فإن تمصيرها أو اختطاطها يحتاج إلى الدولة والملك (ص342)، كما يحتاج إلى مجموعة من الشروط التي ينبغي تحقيقها كتوفر المناعة وإحاطة المدن بالأسوار ووفرة الماء والزرع والشروط الصحية... (ص347).
ماذا يقصد العرب بالمدينة على وجه التحديد؟
لا يمكن لأحد أن يجزم بالجواب بكل دقة، لكن لا بد أن نستنتج مما سبق تعريفا تقريبيا فنقول: المدينة تجمع سكاني وكيان إداري/عسكري ومنظومة جغرافية تدور جل وظائفها حول الحرف والتجارة والخدمات، وتكون محاطة بأسوار دفاعية.
لا يخلو هذا التعريف من ذاتية طبعا، لكنه مع ذلك يبقى ضروريا لتحديد موضوع البحث، وإلا فعن أي شيء سنشتغل؟ مع التنصيص على أن الجغرافيا المعاصرة ذاتها تعجز عن تقديم تعريف دقيق لمفهوم المدينة. فالمقاربة الإدارية بالمغرب مثلا هي التي تميز بين المدينة والقرية (ظهير 1960). بينما تعتبر الجغرافيا الوظيفية المدينة مكانا لتمركز أنشطة القطاع الثالث وذات إشعاع يتعدى حدودها (بغين 1974)، بينما ينظر السوسيولوجيون والسيكولوجيون إلى المدينة على أنها ليست مجرد تجمع لعناصر مادية بل هي كذلك نتاج لمجموعة من السلوكيات والعادات والتقاليد والمواقف... (رايموند 1973، بايلي وآخرون 1984).
وضعية التمدين ببلاد المغرب قبل مجيء الإسلام
يذكر الناصري (1954 ج1 ص74) أنه زمن خلافة عمر بن الخطاب «قدم عليه ستة نفر من البربر محلقين الرؤوس واللحى... فسألهم: ألكم مدائن؟ قالوا: لا...»، ولإضفاء الشرعية على روايته يذيلها الناصري بحديث نبوي يؤكد هذا المضمون: فهل المقصود بالبربر هنا جماعة البدو الرحل، أم جهة معينة من بلاد المغرب، أم الرواية كلها من نسج خيال لاحق يريد إشراك البربر في الإنجازات الضخمة التي حققها إسلام الفترة؟
ما يبدو من خلال الحديث الوارد في الرواية، والذي لم نعثر له على أثر ضمن كتب الحديث المختصة، أن مجال هؤلاء النفر الستة هو "بلاد المغرب"؟ فهم «قوم من المغرب ليس لديهم مدائن ولا حصون ولا أسواق» وما يعقد الأمر أكثر هو أن هؤلاء الستة «كانوا من أفخاذ شتى»، وعلى كل حال فقد حسم الناصري أمر هذا اللغز عندما ختم حديثه بقوله: «...والله أعلم»؟
ما الذي جعل الناصري يطمئن لرواية تنفي صيغة التمدين عن بلاد المغرب قبل مجيء الفاتحين المسلمين: أهو مجرد النقل الذي أنكره ابن خلدون منذ مدة طويلة على المؤرخين؟ (علما بأن ابن خلدون نفسه كتب فصلا في مقدمته بعنوان: في أن المدن والأمصار بأفريقية والمغرب قليلة)، أم أن المدن المغربية كانت قد انجرفت فعلا لوضعية مزرية قبيل مجيء الإسلام للمنطقة؟ وهو ما نفهمه من إشارات متفرقة في بعض الكتابات المعاصرة: فسعد زغلول (1965 ص87) يذكر أن النصوص العربية تسكت نهائيا عن المدن الساحلية من برقة إلى طرابلس وهي أجدابية وسرت ولبدة، «ولا شك أن هذه المدن كانت خاملة مغمورة في ذلك الوقت»، بينما يتحدث جوليان (1983 ج2 ص9) عن ردة تراجعية عرفتها المدن البيزنطية بشمال أفريقيا: فإذا كان بربر البوادي قد ألفوا حياتهم المستقلة، فإن البربر "المترومنين" بالمدن والقرى كانوا يتباعدون عن أسلوب في الحياة «طالما أحبته نفوسهم». وربما تعزى بداية هذه الردة للتخريب الذي عرفته بعض مدن المنطقة منذ مرور الونداليين بها (هاشم العلوي، ج1 ص101) رغم أن البيزنطيين حاولوا تجديد الليمس الروماني، لكنه تراجع كثيرا عن سابقه: فما هي إذن أهم التطورات التي عرفتها مدن المنطقة إلى غاية مجيء الفاتحين المسلمين؟
نعرف انطلاقا من أبحاث الأركيولوجيا أن منطقة الشمال الأفريقي الغربية لم تكن سباقة لحركة التمدين، وأن هذه الحركة انطلقت أصلا من الشرق الأوسط منذ الألف 8 ق م (شوفاليي 1979 ص1)، وأنها انبثقت عن القرى الأولى التي كونها الإنسان، خاصة بلاد الرافدين، ونضجت هذه المدن في الفترة الممتدة ما بين 8000 ق. م، و3000 ق. م، ببلاد الميزوبوتاميا منذ المرحلة السومرية (رايلي1985 ص73، توينبي1988 ج1 ص75) ، وعلى ذلك فإن بلاد المغرب قد "اقتبست" مدنها انطلاقا من احتكاكها بالعالم الخارجي، وخاصة الشرق أوسطي – على الأقل في مرحلتها التأسيسية الأولى – وقد أشار أوعشي (ج1 ص102) أثناء بحثه عن أصل أهالي شمال أفريقيا إلى الشبه الكبير في النمط الهندسي المعماري بين شبه جزيرة العرب (بلاد اليمن) وبين أفريقيا الشمالية، أي بين القصور الصحراوية والحصون اليمنية، وهو ما كان ابن بطوطة قد تنبه إليه في رحلته أيضا.
وبغض النظر عن إمكانية الاحتكاك هذه، فإن الأكيد هو أن الفينيقيين عندما وصلوا المنطقة أسسوا فيها مراكز تجارية سرعان ما تحولت إلى مدن (بروديل1985 ص83...)، وهو ما قام به القرطاجيون أيضا، فالنص الذي يؤرخ لرحلة حانون (1889) يعلن منذ البداية بأن هدف الرحلة كان تأسيس مدن ليبية / فينيقية، وقد تم تأسيس العديد منها فعلا على الساحل الأطلنتي، وهي على التوالي، بعد عبور أعمدة هرقل: تيماتيريونThymaterion (المهدية حاليا)، ورأس صوليس Cap Soloeis (رأس كير حاليا)، وكاريكون Karikon وجيطةGytte وأكرة Acra ومليتةMelita وعرمبيسArambys (مدن ممتدة بين مصب تانسيفت وسوس).
ويبدو أن غالبية المدن المغربية القديمة كانت ساحلية أو قريبة من الساحل، وتقل كلما توجهنا نحو الداخل، وخاصة وراء المرتفعات الجبلية. ذلك ما نلمسه من النصوص القديمة كالنص الذي أورده هيرودوت بخصوص رحلة الناسامونيين (شعب سكن سواحل سرت قديما) الخمسة الذين اخترقوا الصحراء إلى أن وصلوا ضفاف النيل (النيجر؟) (هيرودوت1948 ج2 ص31...)، أو الرحلة التي أرسلها الفرعون نخاو الثاني (حوالي 600 ق. م) للدوران حول أفريقيا (هيرودوت ج4 ص42)، أو النصوص المتأخرة عنها نسبيا، مثل نص سترابون (1909 ج7 ص3) الذي يصف أواسط ليبيا، أو نص بلين (1950الكتاب5) حول الجنوب القسنطيني، الذي يتحدث فيه عن رحلة سويتون بولين Suétone Paulin (القنصل الروماني)، أو وصف بطوليمي (1828 ص24) لقبائل الكارمنت، التي كانت تسكن فزان، والتي كانت تهاجم سواحل سرت وتنهبها... حيث يفهم من هذه النصوص جميعا أن المدن والتجمعات السكنية كانت تتناقص كلما توجهنا نحو الداخل، أي باتجاه الصحراء. وعلى أي فإن قرطاج تقدم أكبر نموذج عن المدن الإفريقية التي تأسست نتيجة احتكاك بلاد المغرب ببلاد الشرق، واستمرت - رغم أن اللعنة الرومانية حلت بها ولم تبق منها حجر على حجر - عندما عصى كايوس غراكشوس آلهة الجحيم وبني بها مستعمرة رومانية جديدة (ميادان ص121). إلا أن قرطاج لم تحافظ على خصائص المدينة الفينيقية خالصة، بل مزجتها بالفن الهيليني (بروديل1985 ص81)، ونحن نعرف بأن الإغريق كانوا يخضعون مدنهم لمعمار مضبوط يراعون فيه الوظيفة والموضع التضاريسي (الطبوغرافي) بالإضافة للمواصفات الجمالية (ليفيك1964 ص464).
نفس التأثير الهيليني نكتشفه في مدينة أخرى، رومانية هذه المرة، وهي وليلي (بيغن1988 ص44): فلا شك أن الملاحظ لهندسة المدينة سيتساءل حول العلاقة بين مدلول الرواق Péristyle اليوناني الأصل، وغرفة الدخول Atrium الإيطالية، خاصة وأن كليهما يمد بالهواء والنور الغرف المنفتحة عليه؟
لقد اقتبست وليلي هذه الهندسة من التصميم الهيليني/الروديسي، أكثر من اختيارها الروماني (بن عبد الله1977 ص384...)، على أن الطابع الإغريقي ممزوج بالتأثير الروماني في المرافق المتعلقة بالدور: الصالون Oecus وغرفة الاستقبالTricinium ، كما أن المؤثرات الرومانية بارزة جدا في ساحة المدينةForum وبيت العدلBasilique والكابيطول وقوس النصر والشوارع التي يتعدى أوسعها )وهو الشارع العام (Maximus Decumanus اثنا عشر مترا في العرض، وبذلك تكون شوارع وليلي أكثر عرضا من أوسع شوارع المدن الرومانية بشمال أفريقيا (باناسا ستة أمتار – تيمجاد وقرطاج خمسة أمتار)، كما أن وليلي تكشف عن آثار تدل على مواصلة الحياة بها بعد الجلاء الروماني، لكن ملامحها كانت قد آلت إلى التقلص، وقد تم ترميم العديد من جوانبها في فترات لاحقة (تختلف هندستها عن الهندسة الرومانية)، وهكذا دخل المعمار الروماني طي النسيان، ونبتت أكواخ عديدة وسط الأزقة، وقد عثر بالمدينة على كتابات مسيحية ترجع إلى القرن 7 م، تؤكد استمرار المسيحيين بالمنطقة إلى غاية مقدم الفاتحين المسلمين، كما تأكد وجود جالية يهودية بواسطة العثور على كتابة عبرية، زيادة على انتشار عبادة الأوثان، والأكيد طبعا أن قبيلة أوربة التي استقبلت إدريس الأول كانت تعرف الإسلام قبل وصول هذا الزعيم (أكراز ج1 ص265).
من خلال هذا الركام نستطيع أن نضع تصورا تقريبيا للتطور الذي عرفه التمدين ببلاد المغرب قبل مجيء الفاتحين المسلمين: فقد سكن البربري في بداياته الأولى في مساكن متنقلة تسمى "ماپاليا" Mapalia أو "ماباليا"Mabalia ، وكانت تصنع من مواد نباتية كالبروق (نوع من القصب اللين) والأسل (الدوم) أو خليطهما، ثم القصب والحشف (من أغشية السنابل)، ويصف هيرودتس هذه المساكن بقوله: «كانت مساكنهم محبوكة من... الأسل والبروق وهي سهلة النقل» (الدخيسي ص110...). كما سكن البربري في كهوف تحفر في قمم الهضاب والتلال، وقد كشف الباحث روهلمان عن عدد من هذه المخابئ على امتداد وادي بهت: فهل كان ذلك يتماشى مع تطور نمط العيش، أي الزراعة التي تفترض بالضرورة وجود الاستقرار، والذي يؤدي حتما إلى ظهور القرى؟ ربما، لكننا لا نستطيع أن نجزم بأن هذه القرى قد تطورت إلى مدن، وعليه فإن التمدين الحقيقي لبلاد المغرب ظهر مع مجيء الفينيقيين، وبما أن اتصال هؤلاء بالمنطقة تم لأول مرة على السواحل فإن ذلك يسمح لنا بأن نقول بأن المدن الأولى كانت ساحلية، قبل أن تنتشر في باقي الأرجاء. وقد تطور التمدين مع مجيء القرطاجيين، ثم مع الرومان الذين حافظوا في الغالب على نفس المدن مثل قرطاج ودجة وسيكة وتامودا وزيلي وليكسوس وغيرها... وكانت هذه المدن تمزج بين فن العمارة الروماني والهيليني في آن واحد، ويتمثل ذلك في ضخامة البنايات المزينة بالتماثيل وصور الكائنات الحية وانتظام الشوارع والأزقة واتساع الأبواب وارتفاعها، مع بروز الأعمدة والأقواس والمنشآت العمومية... وتقدم لنا وليلي (قصر فرعون) نموذجا حيا لذلك، حيث البناء المرتكز على الحجارة المتجانسة المنحوتة (بقوس النصر)، أو الحجر العادي مع الآجر (جدران المنازل)، وفي بعض المباني نجد الأرض مكسوة بالفسيفساء التي تتشكل منها عدة صور نباتية وحيوانية، أما السقوف فتغطى عادة بالحجر الكلسي وإن كنا نجد سقوفا من القرميد أيضا...
ورغم أن هذه المدن تراجعت فيما بعد عما كانت عليه زمن الحكم الروماني، إلا أنها احتفظت بوجودها وأهميتها، العسكرية على الأقل، إلى غاية احتكاك أول جيش إسلامي بالمنطقة.
ترى ماذا قصد الناصري بحكاية النفر الستة الذين وفدوا على عمر بن الخطاب وأنكروا وجود المدن ببلادهم؟
الإسلام والمدن المغربية القديمة.
- مراجعات حول أسباب الفتح الإسلامي لبلاد المغرب.
- تعامل الفاتحين مع مدن بلاد المغرب القديمة.
*مراجعات حول أسباب الفتح الإسلامي لبلاد المغرب*
عند مطالعة الكتابات التي حاولت إيجاد تفسير لسبب اندفاع عرب الجزيرة في حركة الفتوحات، يمكن أن نصنفها إلى عدة أقسام (تبعا للعامل الذي فسرت به هذه الفتوحات)، وهكذا يمكن أن نميز بين قراءات أرجعت ذلك للعامل الديني، وأخرى نظرت له على أنه هجرة ناتجة عن فائض السكان، وثالثة عالجته من منظور اقتصادي صرف (البحث عن الغنيمة).
فعن التيار الأول يمكن أن نستحضر نموذج غرومباوم (1953 ص12) الذي ذهب إلى أن الدين كان بالنسبة للإسلام والمسيحية «في غالب الأمر العامل الأكبر في تحديد تخوم تلك الكتل». والإسلام في رأي هذا التيار يجب ربطه بشخصية النبي، وعزله عن الظروف التي أحاطت به «وبالتالي فإن الربط بين شخصية النبي محمد والتوسع الإسلامي يعتبر أمرا جليا» (بلانهول1988 ص18) على اعتبار أن الإسلام، شأنه شأن المسيحية، (عبد الهادي عبد الرحمان1988 ص17) حمل فكرة العالمية (دين يطمح إلى التوتاليتارية) مما يحتم على أتباعه نشره في مختلف المناطق، مما ينتهي بنا إلى فكرة التوسع. وهو أمر لا يوافق عليه برنارد لويس (ص31) الذي زعم أنه في السنوات الأولى للخلافة تدفق عدد كبير من العرب عبر خطوط الدفاع المنهارة للإمبراطوريات المجاورة، لذلك «فإن أحد العوامل الرئيسية التي حثت العرب على الغزو كان ضغط السكان المتزايد في شبه جزيرة العرب القاحلة»، وتفسير ذلك في رأي هؤلاء (بلانهول ص14...)، أن البادية تتميز بمناخها الجاف والصحي، وكذا تباعد مساكن البدو عن بعضها البعض، مما يحفظها من كل وباء. وكان ابن خلدون أيضا قد لاحظ أهمية البيئة الصحراوية في التفوق الجسماني والأخلاقي للبدو على سكان الحواضر، لثلاثة أسباب:
1) التغذية الطبيعية واعتدال البدو في مأكلهم.
2) المناخ الصحي مقارنة مع مناخ الحاضرة الملوث.
3) التنقل الدائم للبدو يجعل أجسامهم في حركة دائمة.
لهذا فإن المجتمعات البدوية كانت تعرف دائما فائضا بشريا مهما، فإذا أضفنا لذلك أنها مجتمعات عنف وغزو وجدنا التفسير السليم للفتوحات الإسلامية. وقد تم إنجاز بعض الدراسات (بلانهول ص19) للدلالة على أن منطقة الشرق الأوسط عانت (بين 591 م و640 م) من سنوات متتالية من الجفاف، وهو ما دفع بالبدو في عملية توسع خارج نطاقها الأصلي (لاحظ أن الإسلام نجح في الحواضر أولا، والبدو/الأعراب كانوا أشد كفرا ونفاقا). فالفتح إذن كان هجرة ناتجة عن فائض السكان الذين انطلقوا بحثا عن موارد جديدة للعيش. لكن ما رأينا، والحالة هذه، في قول غوستاف لوبون (ص132) الذي سجل عكس ذلك تماما عندما كتب بأن سكان الأراضي المفتوحة «كانوا مستعدين لتلبية نداء أي فاتح يعد بإطعامهم»، فالظاهر إذن أنهم لم يكونوا بأحسن حالا من سكان الجزيرة؟ وما رأينا أيضا في تفسير موريس لومبار(1979 ص10) الذي يرجع سبب نجاح الفتوحات الإسلامية إلى سكان مدن المناطق المفتوحة الذين انضموا للفاتحين طلبا للحماية من «الفوضى والنهب الذي سببه البدو الرحل»؟ أما عن العامل الاقتصادي كمحرك لعملية الفتوحات فنسجله عند العديد من الدارسين، وعلى رأسهم فان فلوتن (1934 ص21) الذي رأى بأن الجشع والأنانية «لم يلبثا أن وجدا طريقهما إلى نفوس العرب واستوليا على قلوبهم لما كان يفاض عليهم من كل ناحية من النعيم والثراء، ذلك الثراء الذي لم يكن مألوفا لهم، والذي كان أقرب إلى فساد النفوس منه إلى تهذيب الأخلاق»، لذلك فإن ما يسميه المؤرخون العرب فتوح يزيد، لم يكن في الواقع «إلا ضربا من تلك الحملات التي يجردها قطاع الطرق على البلاد الآمنة المطمئنة» (فان فلوتن ص23). وهو نفس المنحى الذي توجهه هاملتون جيب (1974 صCool عندما اعتبر أن الفتوحات الإسلامية عملية توسعية هدفت قطف ثمار البلاد المفتوحة، وزكاه فان فلوتن (ص15...) مضيفا بأن الفاتحين لم يتوانوا عن إعمال السيف والعنف من أجل الغنيمة (فلوتن،الجابري1991 ص99/165) – تحت ضغط الفقر والجوع والحاجة – (رودنسون1974 ص34، بيضون1986 ص36، جولد تسيهر1920 ص123) هذه الغنيمة التي حركت جموع العرب نحو أفريقيا، حسب أندري جوليان (ص17)، ودفعتهم للقيام بعدة غزوات كسبوا منها غنائم عظمى (جوليان ص17، العروي1982 ص77).
فأما عن دور الهجرة في الفتوحات، فيمكن أن نقول بأنه كان للعرب، مبدئيا، ذلك الاستعداد النفسي لمغادرة موطنهم الأصلي (جزيرة العرب) للاستقرار بأي مكان يتم فتحه، شريطة ألا يتعارض مع مصالحهم الخاصة، وقد عبر عن ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص أحسن تعبير عندما قال: «لولا مالي بالحجاز لنزلت برقة، فما أعلم منزلا أسلم ولا أعزل منها» (البلاذري ص315)، بل إنهم اعتبروا بلاد المغرب "أرض هجرة" (أبو العرب1968 ص35).
وأما عن العاملين: الاقتصادي والديني ودورهما في الفتوحات، فقد كتب البلاذري يقول (ص149): «لما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيه الجيوش إلى الشام، فكتب إلى أهل مكة، والطائف، واليمن، وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع. » فما الذي مكن العرب من تحطيم الإمبراطورية الفارسية وتقزيم الإمبراطورية البيزنطية؟ أو بصياغة أخرى: كيف تمكن العرب من تحقيق ما حققوه رغم ضعف مستواهم الحضاري/المادي إذاك؟ وبهذا السؤال نعود من جديد لأصل الإشكال: ما هو العامل الذي حرك الفتوحات الإسلامية ووجهها؟
لن نتسرع فنقول بأن الدين وحده، وحب الاستشهاد والجنة وأشياء أخرى... كان يختفي وراء هذه الانتصارات ويفسرها، فقبائل الهانز Huns الشرقية سبق لها أن دمرت الإمبراطورية الرومانية في القرن 5 م، وقبائل المغول والتتار قوضت الخلافة العباسية خلال القرن 13 م، رغم أن روما كانت أكثر حضارة من "الهانز" وبغداد كانت أرقى من "التتار"، ولا نعتقد أن جموع الهانز والتتار كانت تتحرك وفق عوامل دينية من نوع طلب الشهادة و"الدار الآخرة"، ذلك أن "الدار الدنيا" أيضا حاضرة في هذه الانتصارات، وهذا يقودنا للتساؤل: هل العامل الاقتصادي هو المحرك الحقيقي للفتوحات الإسلامية؟
إن تفسير الفتوحات بالاقتصاد الصرف أمر نرفضه لعدة أسباب:
أولا: لقد بينت ردود قبيسي (1981 ص56...) على رودنسون، خاصة ما كتبه بعنوان: «في أن الجوع والفقر مفهومان نسبيا» وكذا «في أن الظروف الطبيعية لم تكن سيئة للغاية» (ص61...): أن ظروف العرب مع مجيء الإسلام لم تكن سيئة فعلا، أو على الأقل ليست بذلك السوء الذي صوره بعضهم: (برنارد لويس، فان فلوتن، مكسيم رودنسون، إبراهيم بيضون...)
ثانيا) إن الكتابات التاريخية المتعلقة بالقرن 7 م/ 1هـ، لا تسجل أي اكتشافات طبية أو تحسن على مستوى التغذية يسمح لنا بالقول بأن جزيرة العرب قد عرفت انفجارا ديموغرافيا شكل عبء إضافيا على الإمكانيات الغذائية التي كانت توفرها البيئة قبل ذلك، كما أن المنطقة لم تعرف تقلبات مناخية كبرى تجعل الظروف أشد سوء مما كانت عليه من قبل، فيضطر السكان بالتالي إلى مغادرة أرضهم والبحث عن مجال حيوي آخر، والشيء الوحيد الذي تسجله المصادر، وفي مقدمتها الطبري (ج2 ص487 وص507...)، أن خلافة عمر – التي نشطت فيها الفتوحات – عرفت سنوات متلاحقة للجفاف ووباء الطاعون أودى بحياة العديد من سكان الجزيرة والعراق والشام ومصر... مما يعني أن المناطق المفترض افتتاحها (العراق، الشام، مصر) أيضا عانت من نفس الكوارث.
ثالثا) لاحظ بيير كلاستر (1985 ص33) في دراسته للحرب في المجتمعات البدائية، أنه مقابل "المجد" الذي يلتصق بالمحارب، والذي قد ينطوي على احتمال تحوله إلى قوة ضاغطة وبالتالي إلى ممارسة السيطرة على الآخرين، أنه محكوم على المحارب الحقيقي بالموت، لذلك فالمجد والاحترام اللذان يقدمان له، يدفع ثمنهما من موته، وهكذا فالمجتمع هو ضد المحارب بقدر ما هو من أجل الحرب: فكيف ينتظر المحارب/العربي الثروة من الحرب إذا كان لا يضمن أصلا بقاءه حيا؟
رابعا) لو كان الاقتصاد أو قسوة الظروف الطبيعية هي التي قذفت بالعرب لبلاد المغرب، لكان "الغزو" العربي من نوع غزوات الهانز أو التتار، أو في أحسن تقدير من نوع الاحتلال الروماني والبيزنطي... في حين أننا نلاحظ أنه اختلف عن هذه الأنواع جميعا اختلافا جذريا: فالوافدون العرب لم يأتوا كلهم بصفة الغزاة العسكريين: فالخوارج والأدارسة مثلا جاؤوا إلى المنطقة فرارا من بطش الخلافة بالمشرق، ونجحوا في تكوين دول في بلاد المغرب، مما يعني أنهم لاقوا تجاوبا مع السكان الأصليين للمنطقة.
كيف يمكن إذن وضع تركيب مُرضٍٍ لكل هذه العوامل، يمكننا أن نبرر به سبب ونجاح الفتوحات الإسلامية؟
إشكال سنحاول الإجابة عنه في الباب الثاني من هذا العمل.
تعامل الفاتحين مع مدن بلاد المغرب القديمة
ذكر النويري (ج22 ص197) أنه في سنة 27 هـ/649 م أنفذ عثمان بن عفان جيشا، من مختف القبائل العربية، لأفريقية: من بني عدي وبني أسد وبني سهم وجهينة ومزينة وضمرة وغفار وفزارة، أضاف لها ابن عبد الحكم (ص38): مهرة وغنث وميدعان. وقدر أبو العرب (ص14) إمدادات المدينة المنورة وحدها بعشرين ألف رجل.
والظاهر أن هذه الفسيفساء القبلية لم تكن كلها من الرجال القادرين على حمل السلاح (الجند)، فالنويري يذكر (ص178) أن عثمان أعان «الجيش بألف بعير من ماله يحمل عليها ضعفاء الناس» مما يجعلنا نتساءل، منذ البداية، عن محل هؤلاء "الضعفاء" من عمل حربي يقصد به الغزو والفتح؟ وبالتالي نضع احتمالا مؤداه أن العرب، انطلاقا من عملياتهم العسكرية الأولى بالمشرق ضد الفرس والروم، كانوا يتوقعون أن أفريقية لا بد وأن تؤول إليهم لا محالة، وربما كانوا يتوقعون سهولة الفتح أيضا؟
وإذا كانت العديد من الدراسات قد أنجزت حول الموضوع (سعد زغلول، أندري جوليان، حسين مؤنس...) واتفقت كلها على أن عملية الفتح كانت عسيرة جدا وتطلبت مدة زمنية طويلة، فإننا سنحاول معالجتها من زاوية أخرى تركز أساسا على موقع المدن من هذه العملية.
انطلق الفتح الإسلامي لبلاد المغرب من مدينة تم تشييدها حديثا في مصر وهي الفسطاط، واتخذها قاعدة لانطلاق العمليات العسكرية اللاحقة والعودة إليها، وهو ما نلمسه مثلا بعد إتمام فتح طرابلس وبرقة حيث «عاد عمرو بن العاص... إلى مصر ليطمئن على أحوالها» (سعد زغلول ص97) خاصة وأن الوجود الإسلامي بمصر لم يكن قد رسخ أقدامه بها، يدلنا على ذلك ثورة الإسكندرية وغدر الروم بالعرب بعد سنتين من وفاة المقوقس (الطبري ج2 ص594). ورغم أن عمر بن الخطاب كان قد رفض تقسيم المدن غنيمة عندما طلب منه أبو عبيدة ذلك، وأمره أن يأخذ من أهل الذمة الجزية فقط: «فإذا أخذت منهم الجزية فلا شيء لك عليهم ولا سبيل» (حميد الله1987 ص483)، فإننا نجد ابن العاص صالح أهل انطابلس (برقة) على الجزية «على ثلاثة عشر ألف دينار، يبيعون فيها من أبنائهم ومن اختاروا بيعه» (ابن عبد الحكم ص30، الطبري ج2 ص534) ، وهو نفس السلوك الذي سلكه مع لواتة وشرط عليهم أن يبيعوا أبناءهم وبناتهم فيما عليهم من الجزية، «قال الليث (بن سعد) فلو كانوا عبيدا ما حل له ذلك منهم» (البلاذري ص325)، ثم كتب ابن العاص إلى عمر بن الخطاب يعلمه أنه ما بين برقة وزويلة قد أسلم جميع أهلها وحسن إسلامهم: «فقد أدى مسلمهم الصدقة وأقر معاهدهم بالجزية» (البلاذري ص315).
وهكذا، ورغم أنها ليست بأفريقية «ولكنها مفرقة غادرة مغدور بها» – على ذمة ابن عبد الحكم (ص33) والبلاذري (ص316) اللذان ينسبان القول لعمر بن الخطاب – فإن العمل التاريخي كان لا بد أن يسير إلى نهايته المنطقية، نقصد مسيرة الفتوح التي تواصلت زمن عقبة، بعد أن توقفت مدة بسبب الأحداث التي هزت بلاد المشرق عقب مقتل الخليفة الراشدي الثالث. والظاهر أن سياسة عقبة تجاه المدن المفتوحة قد اتسمت بالعنف: فبعد فتحه مدينة "ودان" جذع أذن شيخها (ابن عبد الحكم ص51)، وعندما فتح مدينة "جرمة" قام بسحب ملكها فما وصل إلى عقبة حتى كان يبصق الدم (نفسه)، بالإضافة إلى أن هذا الفاتح قام بقطع إصبع ملك "كوار" «حتى لا يفكر في الخروج على العرب»، ثم خرب "خاوار" وقتل المقاتلة وسبى الذراري والنساء... (نفسه ص53). وفي ولايته الثانية، زمن خلافة يزيد بن معاوية، (البلاذري ص320) قام بتخريب مدينة "دكرور" (انتقاما من أبي المهاجر) (القيرواني صCool، ثم حاصر مدن: مجانة وباغاية وتيهرت، بل حاصر أعظم مدن الروم وهي "أذنة" وكان حولها 360 قرية كلها عامرة، ثم أخذ طريقه نحو طنجة (القيرواني ص10... وقارن مع النويري ص191)، ولعل هذا ما دفع أندري جوليان (ج2 ص20) للقول بأن عقبة لم يعمل على فتح «المراكز المحصنة شمال الصحراء، بل توجه مباشرة إلى طنجة»، وهي الملاحظة التي سجلها سعد زغلول أيضا (ص161) عندما قال: «وترك عقبة الروم يعتصمون بالحصون والقلاع لا يبرحونها، وأوغل في الغرب إلى أن نزل على طنجة». وبمتابعة النصوص في المصادر(القيرواني ، النويري)، تتأكد لنا فعلا هذه الملاحظة، إذ خلال المعارك التي دارت بين عقبة وخصومه (الروم/البربر) فإن الفاتح العربي كان يكتفي بتحقيق الانتصار الذي يتم غالبا خارج أسوار المدن ولا يهتم بالمنهزمين الذين كانوا يلجؤون إليها ويتحصنون بأسوارها (كما حصل مثلا عند حصار باغاية ومسيلة وتاهرت...)، أي أنه لم يحسم الصراع نهائيا لصالحه، وهذا خطأ استراتيجي ارتكبه عقبة عندما أغفل مسألة إخضاع المدن، وهو ما يفسر استعدادها الكامن للثورة، وذلك ما لم تتأخر في القيام به فعلا، فالنويري يذكر أن عقبة في طريق عودته من المغرب الأقصى سار يريد تهودة وبادس «فأغلق الروم حصونهم دونه وشتموه ورموه بالنبل والحجارة وهو يدعوهم إلى الله» (النويري ص193، حيث توحي هذه العبارة بالضعف الشديد الذي أصبح عليه عقبة) وحيث انتهى الأمر، كما هو معلوم، بمصرعه قرب تهودة سنة 63 هـ/683 م.
نفس السلوك نهجته العديد من المدن في عهد الفاتح الذي جاء من المشرق خصيصا للانتقام لعقبة، وهو زهير بن قيس البلوي: فقد هاجم البيزنطيون برقة مستغلين انشغال زهير بحرب كسيلة وتمركزوا بمدينة درنة، فلما هاجمهم زهير، في قلة من جنده، لقي مصرعه عند أسوارها (ابن عبد الحكم ص66، البلاذري ص321).
هكذا نلاحظ أن سياسة الفاتحين الأوائل لم تتميز باستراتيجية دقيقة تجاه المدن (العروي1982 ص80)، بل يمكن أن نقول بأنها كانت عشوائية تتبع خطا واحدا باتجاه الغرب، ولا يهم إن كانت المناطق التي تم عبورها قد خضعت فعلا للإسلام أم لا، وكأن معيار الفتح إذاك هو إلى أين وصل هذا الفاتح أو ذاك وليس هل خضعت له المناطق المفتوحة، وعلى رأسها المدن، بطريقة عملية؟ فما الذي طرأ على هذه السياسة مع مجيء حسان بن النعمان؟
أهم ما يبرز في السياسة الجديدة بخصوص المدن، هو الصراع الإسلامي/البيزنطي حول قرطاجة وتخريبها، ثم الصراع الإسلامي/البربري ومسألة تخريب المدن والقرى الأفريقية (في صراع حسان مع الكاهنة).
فقد دخلت قرطاج تحت حكم البيزنطيين سنة 533 م. وظلت تابعة لهم إلى غاية مقدم حسان بن النعمان، فوجه إليها حملة سنة 74 هـ «ولم يكن العرب قد حاربوها من قبل» (سعد زغلول ص181): فما هو السبب الذي جعل العرب يسكتون على مدينة عريقة في أهمية قرطاج طيلة عملياتهم السابقة، رغم أنها ظلت «مدينة عظيمة شامخة البناء» على حد قولهم (النويري ص179)؟
الواقع أن المصادر لا تمدنا بتفاصيل دقيقة حول هذه المسألة، وإن كنا نجد إشارات متفرقة في بعضها تعطينا بعض المعلومات عن علاقة العرب بقرطاجة قبل مجيء حسان، فالنويري يذكر(ص184) أن أهل قرطاجة رفضوا تقديم الضريبة لصاحب القسطنطينية (هرقل) بدعوى أن ما عندهم قد أخذه العرب منهم. لكننا لا نعتقد أن المدينة استمرت في دفع هذه الإتاوة خاصة مع اضطراب أحوال المغرب بعد مقتل عقبة، وإلا لماذا سيغزوها حسان أصلا؟ مما يجعلنا نقول بأنها ظلت تابعة للروم إلى غاية فتحها، وأنها كانت محل نزاع بينهم وبين العرب: فقد حاصرها حسان وضربها بالمنجنيق واستولى عليها سنة 74 هـ/693 م (جوليان ج2 ص25)، لكن الإمبراطور البيزنطي ليونسيوس Leontios جهز أسطولا نجح في استعادتها، مستغلا انهزام حسان أمام الكاهنة (في مواجهتهما الأولى) عن طريق حملة قادها البطريك يوحنا سنة 78 هـ/697 م(سعد زغلول ص193...)، قبل أن يفتكها حسان من جديد «سنة 698 م، حيث وجدها شبه مخربة» على حد تعبير ش.أ. جوليان(ج2 ص25)، وهو الأمر الذي اختلف معه فيه سعد زغلول الذي يرى (ص195) بأن حسان هو الذي خربها، وتؤكده بعض المصادر العربية: «فهدم المسلمون منها (قرطاجة) ما أمكنهم» (النويري ص196)، مما يجعلنا نفترض أن مقاومة المدينة كانت شديدة، وأنها كانت تشكل تهديدا مستمرا للعرب ما دامت قائمة، خاصة وأنها مدينة عريقة بثقلها التاريخي والحضاري الطويل وهو ما أدركه حسان فأمر بتخريبها. وعليه فنحن نشك في النتيجة التي توصل إليها جوليان (ج2 ص27) عندما خلص إلى أن فتح المدن الأفريقية العريقة لم يتطلب أي مجهود يذكر: «فقد كان قيام حكومة نظامية ضروري لحياتهم، وقضاء شؤونهم أهم في نظرهم من الحرية»: فأي "شؤون" هذه التي تسمح لأصحابها بتقديم مدينتهم لتخريبها؟
أما المسألة الثانية التي تبرز في فترة فتوحات حسان فهي تخريب المراكز الحضرية، أثناء حروبه مع الكاهنة، وهي مسألة ركزت عليها المصادر كثيرا، ونسبتها الدراسات المحدثة إلى هذا الطرف أو ذاك. ويهمنا جدا أن نفهم حيثيات هذا التخريب، سواء أكان من اقتراف العرب كما اعتقد بروفنصال، أو من عمل الكاهنة وجنودها وهو الرأي الذي تبعه جمهور المؤرخين العرب.
تقول الرواية العربية (القيرواني ص34، النويري ص197، البلاذري ص321، ابن عذاري ج1 ص36...)، وهي تكاد تتفق على الخبر عدا بعض الاختلافات الطفيفة، بأن أفريقية كانت «من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا وقرى متصلة... (وأن الكاهنة) فرقت أصحابها ليخربوا البلاد فخربوها وهدموا الحصون وقطعوا الأشجار ونهبوا الأموال» (النويري ص198)، ذلك أن العرب في اعتقاد الكاهنة: إنما يطلبون من أفريقية المدائن والذهب (النويري ص98، الدباغ1968 ص64)، بينما يريد منها البربر المزارع والمراعي، وتضيف الرواية أن المنطقة كانت كلها قرى ومدنا عامرة على مسيرة ألفي ميل وقد تخرب ذلك كله.
وبغض النظر عن المبالغة التي يحملها هذا الرقم، فإن ذلك لا يمنعنا من إبقاء افتراض عظمة الخراب الذي لحق بالمنطقة، ولو أنه لم يصل إلى هذه "الألفي ميل"! كما نفترض أيضا أن الكاهنة قد تنبهت لسياسة حسان الرامية للتركيز على فتح المدن، ولو أنها اعتقدت أن "العرب" يطلبون المدائن ولم تدرك أن هذه السياسة استحدثت مع حسان فقط. وكيفما كان الأمر فالراجح أنه كان هناك "خراب" لبعض المدن، كما أن حسانا قد خرج منتصرا من هذه الحرب – رغم انهزامه في جولتها الأولى – وقتل العديد من البربر، بمن فيهم الكاهنة، وسبى منهم سبيا بعث به إلى عبد العزيز، والي مصر، (البلاذري ص321) ولعل تخريب الكاهنة لبلاد البربر هو ما جعل سعد زغلول يقول (ص191) بأن الكثير منهم (البربر) قد رحبوا بحسان وأعانوه بالمال والرجال في هجومه الثاني الذي انتصر فيه.
لكن ماذا لو ناقشنا الافتراض الثاني الذي طرحه بروفنصال (1954ص212)، والذي ذهب إلى عكس ذلك تماما عندما افترض أن التخريب كان من عمل العرب لا البربر، فهل يكون حسان قد أحدث أمرا مبتدعا في تاريخ الإسلام؟
تشير كتب السيرة (ابن هشام م2 ص193، العسقلاني1989 ص518...) إلى أنه أثناء صراع النبي عليه السلام مع يهود بني النضير قام هؤلاء بتخريب ديارهم، وفي ذلك نزلت الآية ‹﴿فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون ديارهم بأيديهم... ﴾› الحشر/2. كما أن النبي أمر بتقطيع نخيلهم وحرقه، وفي ذلك يقول القرآن الكريم ‹﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها... ﴾› الحشر/5، ثم قام النبي بعد ذلك بإجلائهم عن أرضهم وعمرها المسلمون.
وفي صراعه عليه السلام مع بني قريظة نجده ينزل في حكمه عليهم عند الحكم الذي أصدره سعد بن معاذ: «فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتسبى الذراري والنساء»، وقد بلغ عدد اليهود الذين ضربت أعناقهم في ذلك اليوم ما بين 800 و900، وأقل ما قيل في ذلك 600 أو 700 يهودي (ابن هشام م2 ص240...).
فإذا كان الرسول عليه السلام قد سن هذه السنة لضرورة حربية (تتمثل في تخوفه من العودة إلى الوضع الحرج الذي عاشته يثرب في تحالف الأحزاب مع بني قريظة)، وهي سياسة دعمها النص
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزئين الجزءالاول)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفتح الإسلامي لبلاد المغرب وأبعاده الحضارية
» الفتح الإسلامي لبلاد المغرب وأبعاده الحضارية
» الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (من جزين الجزء الثاني والاخير)
» الفتح الإسلامي لبلاد الشام
» عهد الفتح الإسلامي (من جزئين الجزء الاول)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ملتقى الشهيدين محمد وفارس حمودة :: ملتقى العالم العربي والإسلامي-
انتقل الى: